آراء وتحليلات

نظام رأسمالية الدولة الروسي بمواجهة النظام الرأسمالي الإمبريالي الغربي (3)
07/05/2024

نظام رأسمالية الدولة الروسي بمواجهة النظام الرأسمالي الإمبريالي الغربي (3)

مقارنة بين نمطيْ النظام الرأسمالي الغربي والروسي

إنّ ما يسبب الصراع داخل النظام الرأسمالي هو حقيقة أن القوانين الاقتصادية الأساسية تعبر عن نفسها وتعمل بشكل أعمى. لكن بمجرد تأميم الصناعة ووسائل الإنتاج الرئيسة والرساميل المالية الأساسية، يمكن لأول مرة تأكيد الرقابة والتخطيط بوعي من المنتجين.

نمط النظام الرأسمالي الاحتكاري يقوم على الملكية الخاصة (فردية أو مجموعات بشخص الشركات المساهمة أو الكارتيلات أو التروستات الخ). وتاليًا؛ أصحاب الملكية الخاصة هم الذين يسيطرون على عملية الإنتاج والتوزيع والاستهلاك والتخطيط لدورات الإنتاج المتتالية، بمعزل عن أي تأثير ثانوي غير مباشر للقوى المنتجة، وهم العمال والمزارعون والحرفيون والمبدعون. وتتم هذه العملية، بشكل أعمى وفوضوي، ضمن قوانين العرض والطلب والمزاحمة في "السوق الرأسمالية".

والدولة في هذا النمط تخضع لإرادة أصحاب الملكية الخاصة وهم الاحتكاريون الذين يخضعون هم أنفسهم، وتخضع الدولة معهم، لقوانين "السوق" العمياء.

في هذا النمط يتحقق التأثير النسبي غير المباشر للمنتجين (الناخبين) من خلال الدولة التي يسيطر عليها ــ بحكم امتلاكهم "حصة الاسد" من الرأسمال المالي والإنتاجي والتجاري والإعلامي والثقافي والتعليمي و"الديني" و"الخيري" الخ. ــ ممثلو الطبقات المالكة الاحتكارية الراسمالية، أكثر بكثير من مجموع جماهير الناخبين الشعبيين الذين يُحولون إلى مجرد "قطعان بشرية" تطبق عليها مختلف التجارب "التكنو ــ بسيكولوجية" لـ"صناعة الرأي العام".

أما في نمط "رأسمالية الدولة" الروسية، والتي هي عمليًّا "رأسمالية احتكارية للدولة"، تصبح الدولة هي المالك الأكبر لوسائل الإنتاج و"رب العمل" الأكبر، من دون إملاءات الرأسماليين الاحتكاريين الكبار الخاصين، بل وضدهم. وهذا يتيح للدولة الروسية التحكّم بـ"السوق" وبعملية الإنتاج والتوزيع والاستهلاك والتخطيط الواعي والمسبق لعملية الإنتاج وتوجيهه وترشيده. ونظريًا تصبح القوى المنتجة، أي الجماهير الشعبية بمختلف فئاتها، هي مالكة وسائل الإنتاج، عبر ملكية الدولة لوسائل الإنتاج، بوصفها - أي الدولة - ممثلة للمجتمع. وواقعيًا، تصبح الدولة ممثلة و"أداة" للتيارات والمؤسسات السياسية والفكرية والإيديولوجية والدينية السائدة وذات الشعبية الأكبر في المجتمع.

وفي نمط "رأسمالية الدولة" الروسي توجد عدة خصائص جوهرية تميّزه عن نمط النظام الرأسمالي الاحتكاري الغربي. ولا يمكن فهم الجيوبوليتيكا والجيوستراتيجيا والجيوايكونوميكا للدولة الروسية من دون إدراك هذه الخصائص، وأهمها:

1 ــ عدم وجود الشريحة الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا.

هذه الشريحة توجد في النظام الرأسمالي الاحتكاري الغربي خارج تركيبة الدولة. وهي توجد إما ككتلة شبه موحدة، أو على شكل تكتلات متنافسة ــ موحّدة، وهي تفرض "إرادتها" على أجهزة الدولة، بموازاة وضد إرادة "الناخبين".  

أما في نظام "رأسمالية الدولة" في روسيا فيوجد رأسماليون كبار فرادى خاضعون إلزاميًا للدولة، ولكن لا يوجد شريحة رأسمالية احتكارية عليا تخضع لها الدولة. فالدولة الروسية هي التي تمسك بمفاتيح ومفاصل الاقتصاد الوطني برمته، من إنتاج حبة "البونبون" إلى تركيب محطة تجارب فضاء كونية تدور حول الكوكب الأرضي لعشرات ألوف السنين.

من أبرز الفوارق على هذا الصعيد بين نمطيْ النظام الرأسمالي الغربي والروسي ما يلي:

أ- إنّ البنك المركزي الأميركي (فيديرال ريزرف بنك) المنوط به إصدار العملة الوطنية الدولية (الدولار)، هو شركة رأسمالية خاصة تسيطر عليها الطغمة المالية اليهودية العالمية العليا. وهذا "الفيديرال ريزرف بنك" اليهودي يتحكّم بالدولة الأميركية، وبالنظام المالي الأميركي والغربي بأسره. وتقدم لنا الوضعية الدولية THE WORLD CONJUNCTION الآن الصورة الأميركية التراجي- كوميدية الآتية: إنّ الدولة الأميركية الناهب الأكبر لشعوب العالم، هي حتّى الآن أغنى دولة في العالم، ولكن في الوقت نفسه هي الدولة الأكثر مديونية في العالم، حيث يبلغ الدين العام الأميركي أكثر من 23 تريليون دولار (ألف مليار). وكلما انكشف عجز الميزانية الأميركية- هي دائمًا عاجزة نتيجة التضخم المتواصل لأجهزة الدولة الأميركية المترهلة- يتفق ممثلو اللصوص الثلاثة الكبار (الحزبان الدمقراطي والجمهوري والكتلة المالية اليهودية) على تغطية العجز برفع سقف الدين الأميركي العام، والإيعاز لـ"الفيديرال ريزرف بنك" اليهودي بطباعة كمية إضافية من الدولارات الورقية الأميركية، التي "تقبضها" الأسواق المالية العالمية من دون أي عوائق، لأنها تعدّ "العملة الدولية" الرقم واحد.
ولكن كلّ تلك الدولارات الورقية، القديمة والجديدة، هي في الحساب الأخير ليست إلّا "دينًا" على الدولة الأميركية، ثمّ على الشعب الأميركي وكلّ من يتعامل بالدولار، لمصلحة "الفيديرال ريزرف بنك". وهكذا؛ الدولة الأميركية، والتي ينتصب تمثال الحرية على بابها، ليست أكثر من "رجل مافيا" أو "بلطجي" فارض ومحصل "خوّات" على الشعب الأميركي وجميع شعوب العالم التي تتعامل بالدولار، لمصلحة الطغمة المالية اليهودية العالمية العليا وشركائها الرأسماليين الاحتكاريين.

في المقابل؛ البنك المركزي الروسي هو مصلحة أو دائرة مالية مستقلة، تملكها الدولة الروسية، وهي خاضعة تمامًا لها. ومدير البنك المركزي الروسي يعدّ موظًفا كمدير أي مصنع أو مصلحة أو دائرة مستقلة أخرى تابعة للدولة الروسية. والدولة هي التي تعيّن هذا المدير وأعضاء مجلس إدارته، وتعزل كلا منهم وتستبدله ساعة ترى مصلحة الدولة في ذلك. وعادة يكون مديرو البنك المركزي والبنوك الأخرى التخصصية وأعضاء مجالس الإدارات البنكية، من كبار علماء الاقتصاد والمالية المشهود لهم بالوطنية والنزاهة والإخلاص والكفاءة المهنية. وحاليا؛ السيدة إلفيرا نابيولينا هي مديرة البنك المركزي الروسي، وهي تتارية الأصل، وتعدّ من أهم أركان فريق عمل الرئيس بوتين.
 
ب - يجمع الخبراء أن قطاع الطاقة هو أهم قطاع اقتصادي في الزمن الحاضر في جميع أنحاء العالم.

كل فروع صناعة الطاقة في الولايات المتحدة الأميركية (النفط والغاز والنووية والفحم الحجري وتوليد الكهرباء بكلّ الوسائل) جميعها من دون استثناء هي مملوكة للشركات الرأسمالية الخاصة. وجميع أجهزة الدولة والجيش والقوى الأمنية والبلديات والمصالح العامة الأميركية تشتري حاجاتها من تلك الشركات، أي إن الدولة الأميركية بقضها وقضيضها هي "زبون" عند الشركات الرأسمالية الخاصة الأميركية. وحتّى إذا كانت شركة طاقة أميركية كبرى رئيسة تلزّم تسويق منتوجاتها لشركة خاصة أخرى فرعية- في إحدى الولايات مثلا- وشركة التسويق في الولاية تلزّم التسويق لشركات فرعية ثالثة -في كلّ مقاطعة أو مدينة مثلا- فإن جميع أجهزة ومؤسسات الدولة والمصالح العامة في جميع المقاطعات والمدن تصبح "زبونا" عند زبون زبون شركة الطافة الرأسمالية الخاصة الرئيسة. وهذا، وليس وحده طبعًا، يفسر لنا السعر المرتفع للطاقة، والذي يقع على كاهل المواطن الأميركي العادي. وهكذا دواليك بالنسبة إلى أي سلعة في أميركا. فكلّ هذه السلسلة من الوسطاء الذين يتمحور وجود الدولة الأميركية على ضمان مصالحهم وأرباحهم، ليسوا سوى أحد وجوه النظام الرأسمالي اللصوصي الأميركي خصوصًا والغربي عمومًا. وبكلمات مبسطة؛ الدولة الأميركية ليست أكثر من "جابي فواتير" -مقابل حصة طبعًا- لمصلحة الشركات الرأسمالية الخاصة الرئيسة والفرعية والفرعية من الفرعية التي تمتلك وتهيمن على قطاع الطاقة في أميركا.

أما في روسيا؛ قطاع الطاقة بكلّ متفرعاته ومتعلّقاته وتسويفه وتجارته الداخلية والخارجية، وكلّ الأبحاث المتعلّقة بإيجاد طرائق ووسائل جديدة لإنتاج الطاقة، كلّ ذلك من دون استثناء هو ملك حصري للدولة الروسية، ويعدّ من الضرورات الإستراتيجية لوجود الدولة، مثلما وأكثر، من الطاقة النووية بما فيها الأسلحة النووية ذاتها. وخرق ملكية الدولة لقطاع الطاقة يعدّ تهديدًا للأمن القوميّ لروسيا وبمثابة خيانة وطنية. والدولة الروسية ملزمة بتقديم الطاقة الاستهلاكية والإنتاجية للمواطنين وللمؤسسات العامة والإنتاجية بأدنى الأسعار وأفضل الشروط الممكنة. كما أنها تحدد الأسعار الخارجية انطلاقًا من عدة مكونات، أحدها هو بورصة الأسعار العالمية للطافة، ولكن أهمها وأساسها هو المصالح الوطنية العليا للشعب الروسي والجيوبوليتيكا السياسية العامة للدولة الروسية.
 
ج - إن قطاع صناعة الأسلحة، بكلّ متعلّقاته، هو- خصوصًا للدول الكبرى والمهمّة عالميًا وإقليميًا- أهم قطاع في تلك الدول، بعد قطاع الطاقة؛ وذلك نظرًا لأهميته الاقتصادية والأمنية والعسكرية - الحربية (الدفاعية والهجومية) والسياسية والدبلوماسية. وفي ما يتعلق بالبحاث التخمينية - الخيالية حول مجاهل الفضاء الكوني البعيد، والأبحاث التخمينية الغامضة و"الحزازيرية" لاكتشاف أسلحة جديدة غير معهودة، وهذه كلها أبحاث تحتاج إلى تمويل ضخم غير مضمون بتاتًا وفي الغالب يذهب هدرًا، هي تقع على عاتق الدولة الأميركية ــ وفي ما عدا ذلك؛ كلّ صناعة الأسلحة في أميركا هي مملوكة 100% من الشركات الخاصة، من المسدس الصغير إلى الأقمار الاصطناعية والصواريخ العملاقة والقنابل النووية وكلّ أنواع الذخائر القديمة والجديدة. والدولة الأميركية، بجيوشها وشرطتها ومخابراتها هي "زبون" عند الشركات الخاصة الرئيسة لصناعة الأسلحة والشركات الوسيطة المتفرعة عنها.
وعند تقدمها بأي "طلبية"، أو تقديم الأسلحة لأي "حليف" خارجي، أو القيام بأي مغامرة حربية مباشرة أو بالوكالة في الخارج، تقتضي "إنفاق" كميات مرموقة من الأسلحة والذخائر، فالدولة الأميركية ملزمة بتفديم "كشف" تعليلي بالمسوّغات والأهداف من تلك التقديمات أو المغامرات الحربية، شرطًا ضروريًا لإتمام "الصفقة" بين الشركة الخاصة المعنية وبين الدولة الأميركية. وعليه يمكن الاستنتاج، مثلًا، بأن عملية الإبادة الجماعية وقتل عشرات الوف الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين في غزّة وفلسطين ما هي سوى "صفقة بيزنس" بين كيان القتل المسمى "إسرائيل" وبين الشركات الخاصة لصناعة وتجارة الأسلحة في أميركا (والمانيا وبريطانيا وفرنسا وغيرها)، وإن دول تلك البلدان ليست أكثر من "وسيط" و"سمسار" و"وكيل مبيعات" أسلحة لتلك الشركات.   

أما في ما خص روسيا، فالمجمّع الصناعي الحربي هو، إلى جانب قطاع الطافة، الركيزتان الأساسيتيان لمجمل الاقتصاد الوطني الروسي، وهو ملكية عامة 100% للدولة، ويعدّ أهم ركن من أركان السيادة الوطنية لروسيا. وتاريخيًّا اضطلع المجمع الصناعي الحربي، عبر مالكته الدولة الروسية، بدور رئيسي في دعم جميع الحركات الوطنية وحروب التحرير ضدّ الاستعمار والإمبريالية في جميع بلدان العالم، وهو اليوم يمثل الحارس الجبار الأمين للسلم العالمي، ولاستقلال البلدان المتحررة من ربقة الاستعمار والإمبريالية، والركن العسكري الرئيسي للمحور الشرقي العظيم الجديد المتشكّل من روسيا والصين وإيران الثورة، والذي يقف اليوم كالطود الشامخ بوجه الكتلة العدوانية الإمبريالية الغربية - "الإسرائيلية" وتوابعها بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.   

2ــ قانونا تركيز ومركزة الرأسمال (Concentration and centralization of capital) يعملان ضمن نظام رأسمالية الدولة الروسي

إن نقطة الارتكاز، أو مركز الثقل، في عمل قانونيْ تركيز ومركزة الرأسمال، تقع في دائرة الملكية الرأسمالية الخاصة في النظام الرأسمالي الإمبريالي الغربي، وبالتالي المسارية العملية للانتاج الرأسمالي -بصفته الشيئية أي المنتوجات والعقارات ووسائل الإنتاج المضافة والمطورة والجديدة المبتكرة، والمالية أي الرساميل- تقع في حقل تعزيز الملكية الرأسمالية الاحتكارية الخاصة، أي تضخيم "الرساميل المملوكة" وتقليص أعداد "الرأسماليين المالكين". وفي هذه الحال، الدولة، بما هي "ممثلة للشعب!"، تصبح "هي وشعبها!" أداة صاغرة متناقصة الأهمية من حيث تقرير "السياسة الوطنية" لتنفيذ إرادة الشريحة الرأسمالية الاحتكارية العليا، متناقصة عدد الأفراد باستمرار، قياسًا بحجم الرساميل.  

أما في نظام "رأسمالية الدولة" الروسي، فلا ينتفي عمل هذين القانونين، بل يستمران في العمل في ظروف انتقال نقطة الارتكاز أو مركز الثقل في عملهما إلى دائرة الملكية العامة لوسائل الإنتاج، أي أنهما يعملان في اتّجاه تضخيم الرأسمال الكلي للدولة، وتشديد مركزية إدارة مسارية الإنتاج، أي - بمعنى ما- رفع مختلف الفروع الإنتاجية والخدماتية والاجتماعية من مستوى "مصالح مستقلة" تابعة لوزراة ما إلى مستوى وزارة وطنية لكل من تلك المصالح.

3ــ "بالونات" الاقتصاد المالي الوهمي الأميركي والطابع الواقعي للاقتصاد الروسي

تقول إحدى السرديات إن طلاب كلية الاقتصاد، في إحدى الجامعات الأميركية، طُرح عليهم السؤال الآتي: إذا وضع بتصرفك مبلغ 100 مليون دولار، فأي مشروع مربح يمكن أن تعمل به؟

كان هناك الكثير من الأجوبة الممتازة التي نالت علامات التقدير. ولكن الجواب الناجح كان: سوف أشرع بأي مشروع كان بمبلغ 10 ملايين دولار، وأعمل دعاية للمشروع بمبلغ الـ90 مليون دولار الباقية!

والعبرة هي: أن الاقتصاد الأميركي هو اقتصاد مالي وهمي يقوم على نفخ "البالونات" المالية المبنيّة على الدعاية الفارغة واستهبال الجمهور. ويكفي أن نقدم المثالين التاليين عن "البالونات" المالية الوهمية الأميركية:

الأول ــ مع بداية عهد بوتين في 112000، دخلت روسيا بقوة في أسواق الطاقة الأوروبية والعالمية، إلى جانب الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي كانت قد دخلت تلك الأسواق بعد نهاية الحرب البعثية- الصدامية ضدّ الثورة الإيرانية في 1988. وفي 1192001 وقع الهجوم الذي أدى إلى انهيار البرجين التجاريين في نيويورك، ثمّ غرقت الجيوش الأميركية في مستنقعات الحرب والاحتلال في أفغانستان والعراق. وأدى كلّ ذلك إلى أنهيار أسهم شركات الطاقة والأسلحة وغيرها في البورصات الأميركية. وأخذت الرساميل تتّجه نحو التوظيف في قطاع العقارات المضمون. ولأجل استقطاب المزيد من المشترين وزيادة أرباح أسهم الشركات والبنوك العقارية، أخذت شركات الدعاية الهوائية الأميركية تنفخ في "بالون" قطاع العقارات إلى الحد الأقصى. وحينما بلغ التوسع في الاستثمار العقاري أقصاه، وارتفعت أسعار الشقق بشكل جنوني، وبالرغم من كلّ "التسهيلات" البنكية، بدأت أعداد متزايدة بشكل مطرد من المشترين تعجز عن دفع الاقساط البنكية "الميسّرة". وحينئذ "انفخت البالون"، وانفجرت الأزمة أولًا في البنوك العقارية، ثمّ تدحرجت لتشمل القطاع البنكي والبورصوي بمجمله، ولتنفجر أخيرًا بصورة الأزمة المالية - الاقتصادية الأميركية- العالمية في 2008 ــ 2009.

الثاني ــ في مرحلة الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي القديم والمعسكر الإمبريالي الغربي، كان التنافس في حقل استكشاف الفضاء الكوني على أشده بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الأميركية. وكان التفوق السوفياتي في هذا الحقل ظاهرًا بشكل صادم، ما كان يزعزع هيبة الدولة الإمبريالية الأميركية ونزعتها المَرَضية للهيمنة على العالم. وفي 1957 أسست الدولة الأميركية الوكالة الفضائية ناسا التي بدأت العمل في 1958 برأسمال أولي قدره 16,1 مليار دولار، بقيمة شرائية للدولار يومذاك أكثر من عشرة اضعاف القيمة الدولارية اليوم. ومنذ البداية كانت جميع أعمال ناسا تتم عن طريق التلزيم والتعاقد مع الشركات الرأسمالية الخاصة. ولتكثيف أعمال وكالة ناسا وتحفيز وتشجيع العمل معها، وتسويغ إنفاق مئات مليارات الدولارات عليها، أمام جموع الناخبين الأميركيين، قامت الدولة الأميركية، بكلّ خزعبلاتها وألاعيبها "الدمقراطية"، بفبركة وتزويق وإطلاق بالون الكذبة الكبيرة ونعني كذبة الهبوط الأميركي على سطح القمر. ونُفخت جميع المزامير، وقرعت جميع الأجراس، ودقت جميع الدربكات والطبول، في أميركا وجميع بلدان "الدمقراطية الغربية"، لتبليع الجماهير المستَهبَلة هذه الكذبة الكبرى. وعلى من لا يزال يصدق هذه الكذبة أن يتساءل:

- تقول الكذبة إن رائد فضاء أميركيًا هبط وسار على سطح القمر في تموز 1969، أي منذ حوالي 55 سنة. وفي العادة تكون الخطوة الأولى هي الخطوة الأصعب. فإذا كان الأميركيون، بحسب الكذبة، اجتازوا مرحلة الخطوة الأولى، فلماذا توقفوا عن إرسال رواد فضاء بشكل متتابع خلال هذه المدة الطويلة، وإنشاء قاعدة تجارب علمية أميركية فوق سطح القمر؟ أم أن حبل الكذب قصير؟ ولم يكن بالإمكان علميًا تطويل و"تطوير" الكذبة!

- لقد ملأت أجهزة البروباغندا الدنيا زعيقًا عند إطلاق تلك الكذبة. ولكنها بعد ذلك لزمت الصمت وأوقفت قرع الأجراس ودق الطبول، لأن ذلك كان يقتضي "تطوير" الكذبة والحديث عن بعض الإنجازات البحثية والعلمية. ولكن ذلك كان مستحيلًا لأنه مع العلم من الصعب جدًّا بل المستحيل "اللعب" والكذب، كما في أي منظومة مفاهيمية أخرى، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمعتقدات الدينية الخ. ولكن الكذبة أتت الغاية منها: فحسب الإحصاءات المعلنة بلغت ميزانيات وكالة ناسا من سنة 1958 إلى سنة 2018 أكثر من 600 مليار دولار. وأغلبية رؤساء الوكالة المتعاقبين صاروا من المليارديرية. كما جنى أصحاب الشركات الرأسمالية الخاصة التي عملت مع ناسا مئات مليارات الدولارات، وكان آخرهم "الشاطر حسن!" الملياردير الشهير إلون ماسك.

أما الاقتصاد الروسي فهو اقتصاد قطاع عام - غير لبناني طبعًا- لا يمكن لأي من رجالاته أن يفكر للحظة في أن  ينفخ أي "بالون"، لأن ذلك يعني ببساطة الانتحار أو الاستنحار معنويًّا وقانونيًا، ماليًا وجسديًا. فالقطاع العام الوطني الروسي ليس - قياسًا على النموذج اللبناني- ملكًا لطبقة حاكمة خائنة باعت الاستقلال الوطني والأخلاق والدين لفرنسا وبريطانيا وأميركا و"إسرائيل"، ولا لبعض الشطار الذين اشتغلوا خدما وقوادين ووسطاء -بارافانات للتجارات "القذرة" والصفقات المشبوهة و"المنفوخة" للأمراء السعوديين، بل هو ملك لشعب أبّي قدم عشرات ملايين الشهداء في الصراع التاريخي ضدّ الغزاة الرومان واليهود والمغول والصليبيين والنابوليونيين، وأخيرًا قدم 30 مليون "شهيد" للانتصار على النازية الهتلرية (الأوروبية الغربية) التي تعود اليوم لتطل برأسها من جديد في أوكرانيا.

4ــ السرية المطلقة للاقتصاد الوطني الروسي

إن سرية الاقتصاد الوطني الروسي، على قدم المساواة مع سرية الانفاق العسكري، هي معطى أساسي في الجيوبوليتيكا السياسية والجيوستراتيجيا العسكرية للدولة الروسية.  فمنذ إزاحة الخائن عميل أميركا واليهودية العالمية بوريس يلتسين ووصول فلاديمير بوتين إلى الرئاسة في112000 والدولة الروسية ترى نفسها في حالة حرب وجودية شاملة، اجتماعيًا وسياسيًّا واقتصاديًا وعسكريًا، مع الكتلة الغربية الإمبريالية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية واليهودية العالمية. ولذلك؛ الحجم الحقيقي للاقتصاد الروسي وفروع الإنتاج، وأبواب الانفاق، هي من الاسرار الوطنية للدولة. ويمكن الاستدلال على هذا الواقع من المثالين التاليين:

- إن الميزانية العسكرية المعلنة للدولة الروسية هي نحو 70 مليار دولار، أي أقل بأكثر من 11 ــ 12 مرة من الميزانية الحربية المعلنة لأميركا. وهذه الميزانية "الضئيلة" بالمقاييس الأميركية لا تكفي ثمن البيرة للقوات المسلحة، العسكرية والأمنية، الأميركية، التي يبلغ تعدادها الملايين، والتي تنتشر في 700 ــ 800 قاعدة عسكرية أميركية في كافة أرجاء العالم، فضلًا عن الأساطيل والغواصات وحاملات الطائرات التي تجوب جميع البحار والمحيطات. ومع ذلك؛ جميع الاستراتيجيين وكبار الجنرالات الأميركيين ترتجف وتصطك أسنانهم رعبًا لمجرد التفكير بإمكان وقوع مجابهة شاملة مع روسيا. فالقادة الأميركيون والناتويون و"الاتحاد ــ أوروبيون" الذين يستغبون شعوبهم، ليسوا هم أنفسهم بلهاء وأغبياء، وهم يعلمون تمام العلم، من جواسيسهم ومن ألوف الأقمار الاصطناعية التجسسية، أن القوات المسلحة الروسية تخفي أكثر بكثير مما تظهر، وأنها قادرة على محو أميركا وجميع دول الناتو من الوجود قبل أن ترف جفن للقادة الغربيين.

- منذ وصول بوتين إلى الرئاسة، وخاصة بعد احداث جورجيا في 2008، ولا سيما بعد إعادة القرم إلى روسيا في 2014، شرعت الكتلة الغربية في حصار روسيا وتطبيق سياسة المقاطعة وفرض العقوبات ضدّها وضد كلّ من يتعاون معها. ومع بداية الحرب الأوكرانية في 2022 عبأت الكتلة الغربية بأسرها كلّ قدراتها التسليحية والمالية لخوض حرب استنزاف عسكرية واقتصادية مميتة ضدّ روسيا. ولو أن عِشر مفاعيل سياسة الحصار والعقوبات والاستنزاف التي طبقت على روسيا، طبق على أوروبا الغربية بأكملها، لحلت فيها المجاعة في أشهر أو أسابيع قليلة، ولانتشرت جثث الموتى جوعا في شوارع كافة المدن الأوروبية دون أن تجد من يدفنها. ولكن كيف كان تأثير تلك السياسة المعادية للإنسانية على الدولة الروسية؟ في أحسن الافتراضات، من وجهة النظر الأميركية والأوروبية واليهودية ذاتها، كان تأثيرها أقرب إلى تأثير وخزة بعوضة في ذنب دب. وستموت البعوضة حتّى قبل ان يحرك الدب ذنبه ويسحقها.

وطبعًا ليس في هذا الصمود الروسي، القاتل بالنتيجة للاقتصاد الإمبريالي الغربي، أي أعجوبة. فزمن الأعاجيب قد ولى، وكلّ "قدسية" اتفاقيات السلام "الإبراهيمي" لن تنقذ "اسرائيل" وأنظمة سايكس ــ بيكو الخيانية العربية من الزوال؛ وكلّ صلوات ومليارات دولارات "شعب الله المختار" وأذنابهم "الدواعش" لن تنقذ الرأسمالية الإمبريالية الغربية واليهودية العالمية من الانهيار أمام الزحف التدريجي الثابت للنظام الروسي، الذي يستند إلى معطيات اقتصادية ــ اجتماعية ــ سياسية يرتكز إليها وينطلق منها الاقتصاد الوطني الروسي. ونلقي في ما يلي نظرة إلى بعض هذه المعطيات:

- أن مساحة روسيا (بما فيها شبه جزيرة القرم ومقاطعات شرق أوكرانيا التي استعيدت إلى روسيا) تبلغ أكثر من 17.075.000 كلم مربع. بينما تبلغ مساحة الولايات المتحدة الأميركية (بما فيها الاسكا التي هي بالأساس اراض روسية) 9.834.000 كلم مربع. أي أن مساحة روسيا هي أكبر بنسبة 1.7 من مساحة الولايات المتحدة الأميركية.

- وتفيد الاحصاءات المعتمدة دوليا أن روسيا تمتلك نسبة 30% وأكثر من الثروات الطبيعية على الكرة الأرضية (النفط، الغاز، اليورانيوم، المعادن على انواعها، المعادن الثمينة، المعادن النادرة، المياه الخ).

- يبلغ عدد سكان روسيا (بإضافة سكان شبه جزيرة القرم ومقاطعات شرق أوكرانيا التي استعيدت إلى روسيا) حوالى 150 مليون نسمة. بينما يبلغ عدد سكان الولايات المتحدة الأميركية 33 3 مليون نسمة (احصاء سنة 2022)، أي أكثر من مرتين (2.22) من عدد سكان روسيا.

أي أنه في ظروف متشابهة، أخذًا بالاعتبار حجم المساحة والثروات الطبيعية (الأكبر مرتين لصالح الدولة الروسية) وعدد السكان (الأكبر مرتين لصالح الدولة الأميركية) فإن حجم الاقتصاد لكل من الدولتين ينبغي أن يكون متساويا تقريبا. ولكن الارقام المعلنة من قبل الدولتين تبين"ضآلة" الاقتصاد الروسي مقابل الاقتصاد الأميركي. إلا أنها تبين أيضًا وجود دين عام على أميركا بأكثر من 23 تريليون دولار، مقابل صفر دين عام على الدولة الروسية. فإذا تجردنا عن الكثير الكثير من المعطيات والوقائع، يجب أن يكون لدى روسيا وفر بمبلغ 23 تريليون دولار على الاقل، أي مايوازي الدين العام الأميركي. فأين هي هذه المبالغ الاسطورية، سواء بالشكل السلعي والانشائي والتسليحيى أو بالشكل المالي؟   

إن جميع مراكز الابحاث وجميع أبواق البروباغندا الغربية لا تتناول من قريب أو بعيد هذا الواقع، حتّى لا تكشف مدى قزمية وهشاشة نظام الاقتصاد الرأسمالي الإمبريالي الغربي. في حين أن الدولة الروسية تصمت صمت أبي الهول عن حقائق وطبيعة نظام اقتصاد رأسمالية الدولة الروسي. وأي حديث على هذا الصعيد لا يخرج عن نطاق التخمينات.

نظام رأسمالية الدولة الروسي بمواجهة النظام الرأسمالي الإمبريالي الغربي (2)

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل