معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

مقال ليس عن العراق
08/10/2019

مقال ليس عن العراق

إيهاب زكي
 
حين تتجرد الأفعال من منطلقاتها تصبح الحياة عبثاً، فالقتل مثلاً هو إزهاقٌ للروح، ولكنه يكون ظلماً إن كان خارج إطار القانون، ويصبح عدلاً إن كان قصاصاً. هذا النوع من التجريد هو عدّو القيم، وبما أنّ الإنسان هو عكس الكائنات الأخرى المحكومة بقانون الغريزة، فهو الكائن الوحيد الذي لا يمكن التنبؤ بسلوكه، فقد يجمع المتناقضات في سلوك واحد، أو موقف واحد أو حتى كلمة واحدة على غرار"لعم"، وقد تكون شجاعته حماقة وجبنه حكمة والعكس صحيح. لذلك فالعلم لا يزال عاجزاً أمام ما يسمى بـ"معضلة الوعي"، كما يقول ديفيد شالمرز وآخرون "هناك حقيقة واعية لا يمكن تفسيرها بالمادية أو العلم التجريبي". وإذا عرجنا على ما يقوله غوستاف لوبون في سيكولوجية الجماهير، نجد أنّه يقول بمعنى أن "الجماهير ما هي إلّا كشخصٍ واحد يفتقد للمنطق وتقوده العاطفة والحماس، وله نزعة عدوانية ومعاييره الأخلاقية في أدنى مستوياتها".

كانت هذه مقدمة ضرورية للولوج إلى ما يُثار من شبهاتٍ ولغطٍ حول ما يجري في عالمنا العربي على امتداده. فالشعوب وعلى امتداد ما يسمى بـ"الربيع العربي" تخضع لعملية تجريدٍ منظم من منطلقاتها القيميّة لصالح منطلقاتٍ غرائزية، تنحدر بها عن غير إدراكٍ إلى خنادق العدو، وهذا ليس من باب التجرؤ على حق الناس في العيش الكريم، بل من باب التنبُّه لأسمى حقوقهم، وهو التناقض الرئيسي مع العدو الرئيسي. فالأنظمة-لا الأشخاص- التي ترهن بقاءها بوجود العدو ومصالح العدو وقوانين العدو، هي أصلاً لا تملك أن تمنح عيشاً كريماً، فهذا ليس من وظيفتها، وكما أنّ غير القانوني لا يمكن أن يُقنن، فإنّ الخطأ لا يمكن أن يصبح صواباً، فالاصطفاف ضد الحراك لا يعني التخندق مع الطبقة السياسية، بل قد يكون على العكس تماماً من ذلك، وحتى يكون الحراك الجماهيري منتجاً، فيجب أن يكون في الاتجاه الصحيح وفي إطار القانون الطبيعي، فأيّ حراك في أيّ قطر يستهدف أو يستجلب نتائج سياسية، ولا يحرق الأعلام الأمريكية و"الإسرائيلية"، فهو بالضرورة حراك في الاتجاه الخاطئ وخارج القانون الطبيعي.

ماذا لو كانت الحكومة هي حكومة تفريطية تطبيعية مع العدو"الإسرائيلي" وكان الشعب متخماً بالرفاهية؟

من الجيد أن يتخلص الفرد من الضغط الجماهيري ويدير ذهنيته بشكلٍ منفرد، ويعتبر أنّ هذا الانفراد هو استراحة مقاتل، ويحاول تعليق منح عقله للعقل الجمعي ولو مؤقتاً، حتى تتسنى له رؤية الرقعة بشكل واضح وكامل، فحين ترى مثلاً مدّعٍ أنّه يمثلك ويخاطب الإعلام"الإسرائيلي" فهذا يحتم عليك الانسحاب من العقل الجمعي قليلاً، وحين ترى الإعلام "الإسرائيلي" يتعاطف معك فعليك التوقف قليلاً والتفكر كثيراً، وهنا بالضبط لا تعود الحاجات المعيشية مبرراً كافياً للتذرع ولا حتى لحفظ ماء الوجه. ومن المفيد هنا استرجاع نظرية عزمي بشارة بداية ما سمّي بـ"الثورة" في سوريا، ومفادها أنّه لا ضرر من التقاء مصالح "الثورة" مع المصالح الأمريكية، فهو تبادل منفعة شرط الندية لا التبعية، وهذا نوع قاتل من السم الناقع الوضوح الذي لا عسل فيه حتى للتمويه، والأسوأ من الجرأة بالجهر بهذه النظريات عواراً نهاراً، أنّها لا زالت صالحة للاستخدام في المخيال الجمعي للكثير من الحراكات العربية، حيث تنتهي دائماً بأن ينبض الحراك بقلبٍ "إسرائيلي"، كما بدأت وبانت وآلت إليه ما يسمى بـ"الثورة" السورية، مع كلفة بشرية وحضارية واجتماعية ومالية هائلة.

والسؤال ماذا لو كانت الحكومة هي حكومة تفريطية تطبيعية مع العدو"الإسرائيلي"، وكان الشعب متخماً بالطعام والوظائف والكهرباء والماء والرفاهية، هل هذا يُجنّب الحكومات الحراكات الشعبية؟ وهذا التساؤل يقودنا لمقاربةٍ قديمة، حيث كانت الأنظمة الشمولية تستبدل الحريات بالطعام، فالمجتمعات لا تشكو من الحاجة والعوز إلّا للكلام وأحياناً لمجرد التفكير ولكن هناك أنظمة أغدقت بالحرية وشحّت بالطعام والخدمات. وبالعموم هو ليس خياراً جيداً أن تختار بين الحرية والأمعاء، ولكن بوجود الغدة السرطانية "إسرائيل" فالخيارات محددة. ولكن حين تريد كل الحُسنَيات من حرياتٍ وطعامٍ وخدماتٍ ورفاهية، فعليك التصويب على المانع الفعلي، فالتاريخ لا يرحم شعوباً تستكين لمجرد أنها شبعت، أو لمجرد أنها لا تُحبس على الكلام والأفكار، وعليها أن تلتفت للتهديد الفعلي لا مفاعيله، فهذا الكيان هو الثقب الأسود الذي يبتلع هامشيات التنمية والتحرر المزيف، وتوحيد الجهد تجاهه سيعطي نتائج بالحتمية التاريخية إيجابياً على كل مناحي الحياة حتى لو لم تكن مقصودة. وأخيراً فإنّ اختزال الأزمات في شخوصٍ أو حكومات هو تفريغ للأزمات من جوهرها، والسعي على الهوامش حتى لو نحتَّ صخراً فلن نخرج من دائرة التيه.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف