نقاط على الحروف
لبنان والمفارقة التاريخية
ايهاب زكي
(...ولهذا وضع الأميركيون لبنانَ هدفاً لهم بالرصد والمعاقبة، وقد يزداد التضييق عليه. وما نراه من غضبة الشارع، جزئياً، يعود نتيجة إصرار "حزب الله" على تحويل لبنان إلى خط مواجهة مع الغرب(...) قد لا يبدو مفهوماً لعامة اللبنانيين أنهم يدفعون ثمن تغوُّل "حزب الله" في المنطقة وتهديده مصالحَ الغرب). عبد الرحمن الراشد - جريدة "الشرق الأوسط" السعودية.
لا أعرف إذا كان هذا الكلام يحتاج تأويلاً، ولكن ما يحتاج بالفعل إلى تفسير هو صفاقة إتيان الفجور على قارعة الطريق، إلّا إذا سلمنا مع الراشد وما ومن يمثل بأنّ مواجهة الغرب عارٌ وأيُّما عار، وأنّ من يرتكب شنار هذه المواجهة عليه الشعور بالخجل، أو أنّ هذه الفرقة ترى في الغرب بوابة السماء، واستعماريته قدرًا محتومًا والرضوخ لها من مشتقات التسليم في مفاهيم الإسلام. ولكن بما أنّ هذه الفرقة تخبرنا بأنّ اللبنانيين خرجوا لعدم استيعابهم تهديد حزب الله لمصالح الغرب، وأنّ خروجهم كان بدفعٍ أمريكيٍ للاحتجاج على سلوك الحزب تجاه الغرب - وهذا بالقطع كذبٌ محض- فإنّه لا شك بأنّ الولايات المتحدة وعبر أدواتٍ نفطية ومحلية، تحاول تجيير الحراك في هذا الاتجاه، رغم أنّ مشكلة "لبنان الصيرفي" قد لا تكون في مواجهة الغرب بل الانصياع له. وأودّ لو أسأل الراشد إذا ما كانت مشكلة السعودية هي مواجهة الغرب، حيث يتم استنزافها مالياً وسياسياً وعسكرياً وقيميّاً وأخلاقياً، ويتم استنزاف كرامة ملوكها بشكلٍ ممنهج حيناً وعشوائي أحياناً على لسان من يدعو الراشد اللبنانيين للاستسلام له. وأودّ كذلك سؤاله فيما إذا كان لبنان الرسمي يشهر مصالحه، فلماذا يعتقد أنّ مصالح الغرب أجدى بالاتباع حتى لو تعارضت مع مصالح لبنان.
في حياة الشعوب محطات فارقة تسمى بالتاريخية، حيث لا يكون ما بعدها كما كان قبلها، وانتفاضة الشعب اللبناني هي فارقةٌ تاريخية، والشعوب الحية تستطيع بعقلها الجمعي التقاط هذه اللحظات والبناء عليها، واعتبارها منصة انطلاق للمستقبل وليست أوتاداً تشدها نحو ثبات اللحظة، كما أنّ العقل الجمعي قادرٌ أو يجب أن يكون قادراً على التمييز بين التحديات الإيجابية والتحديات السلبية، وقد وجّه الأمين العام لحزب الله تحدياً قاسياً للواقع اللبناني، حين طرح فكرة التوافق على قانون انتخابات، قبل المطالبة برحيل الجميع والوصول لمرحلة الفراغ، وبما أنّ طبيعة الأشياء لا تقبل الفراغ، فإنّ هذا الفراغ سيجد من يملأه، وبما أنّ المتربصين بلبنان كُثر، ستكون الفوضى على رأس أولوياتهم، لذلك فإنّ هذا التحدي القاسي هو تحدٍ إيجابي، حيث يستهدف عدم الوقوع في إغواء التحديات السلبية، التي قد تحوّل اللحظات التاريخية الفارقة إلى ذكرياتٍ مؤلمة. وفي إطار التحديات التي طرحها السيد نصر الله هناك تحدٍّ لقادة بعض الحراك كشف أنفسهم، وهو أيضاً تحدٍ إيجابي يستهدف عدم حرف الحراك إلى تحدياتٍ سلبية، وركز السيد نصر الله على انطلاقه من معلومات لا تحليلات، وهو ما ينبئ بعملٍ احترازي للحزب، وهو العمل الذي يدخل في إطار التحدي الإيجابي الأكبر الذي كفله السيد نصر الله بالعمل على حماية البلاد والعباد.
من الحكمة الرفيعة عدم تصوير لبنان باعتباره إحدى جزر المحيط الهادي، وأنّه أرضٌ مسورة لا تأتيه الجغرافيا عن يمينٍ أو شمال، وأنّ أزماته لبنانية محض. ومن ناحية أخرى فمن الحماقة الوضيعة اعتبار إيران هي الطرف المسؤول عن اختلاق الأزمات، فيما كيان العدو والولايات المتحدة وأنملاتها النفطية ملائكة تسعى، فالتراجع الأمريكي على مستوى المنطقة يراكمه عجزٌ "إسرائيلي" عن افتعال مواجهةٍ عسكريةٍ سريعة وناجزة، يجعل من ملاحقة خيوط الفوضى خياراً مثالياً، فتحويل الأوطان إلى جغرافيا مهترئة يوفر الامن للكيان الصهيوني، ويبعد عنه تهديد الخطر الاستراتيجي، المتمثل بقدرة محور المواجهة وقوته سنينَ إن لم يكن عقوداً، كما يوفر للولايات المتحدة مصالحها وأهدافها بـ"صفر" تكلفة، والحقيقة وحتى أكون صادقاً مع نفسي أولاً فلا أعرف ماذا سيوفر للنفط. فالنفط لا يعرف إلّا الطاعة العمياء للسوط الأمريكي، وقد يكون هذا السوط هو ما يراه النفط مرادف الأمان، فالخروج الأمريكي من سوريا ليس بعيداً حتى يكون نهائياً، بكل ما يعني ذلك من فشل مشروع استراتيجيٍ استثمرت فيه أمريكا لهندسة القرن القادم، وبكل ما يترتب على ذلك الفشل من نتائج جيوسياسية جذرية، ليست في الصالح الأمريكي قطعاً، لذلك فإنّ من يريد الاستثمار في وجع الناس لمعالجة الوجع الأمريكي الصهيوني، وجع الناس ليس في آخر سلم أولوياته فقط، بل ليس على سلمه أصلاً، فهو في سبيل عالج الوجع الأمريكي الصهيوني على استعدادٍ تام للاستثمار ليس في أوجاع الناس فقط، بل في مصيرهم وحياتهم ودمائهم ومستقبل أولادهم وأحفادهم.
وقد لفتني أحد الدعاة حين قال "إنّ أولوية الناس محاربة الجوع والفقر لا محاربة "إسرائيل""، وهذا مثالٌ من عشرات الأمثلة على سبل الاستثمار في الوجع، وهذه المقاربة العجيبة كأن تقول إنّ الأولوية لمعالجة السكين التي في الخاصرة لا الطلقة التي في الرأس، ثم ما وجه التعارض في محاربة الاثنين معاً؟ والمتابع لإعلام النفط يدرك بلا عظيم جهد النهاية المقيتة التي يرجوها للحراك، وحين دعا السيد نصر الله أنصار المقاومة لمغادرة الساحات، لم يكن كما سيتوهم البعض بوضع شارعٍ مقابل شارع، بل من باب اتخاذ موقفٍ عمليٍ أولاً، ومن باب منع الانزلاق ثانياً، فالمشادات التي حدثت لم تكن وليدة العفوية أو صدفة الوجود في المكان الخطأ في الزمان الخطأ، وأخيراً فإنّ ما يضمن تحقيق الحدود القصوى من أهداف الحراك، هو البقاء في الإطار المطلبي بعيداً عن السجال السياسي.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024
ضاحية السيد: مدينة تسكننا!
16/11/2024
الانهزاميون ينتشون بفائض الحرب والتدمير
15/11/2024