معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

إيران.. جورج أورويل وإعلام النفط
18/11/2019

إيران.. جورج أورويل وإعلام النفط

ايهاب زكي

في رواية 1984 لـ"جورج أورويل" تقوم الدولة باختراع لغةٍ جديدة للسيطرة، باعتبار اللغة هي أداة التفكير، وهذه اللغة المختَرعة تهدف إلى الحدّ من التفكير وتغيير المفاهيم وقلب الحقائق وتزوير التاريخ، فتصبح العبودية حرية ويصبح الحب بغضاً ويصير الجهل قوة، والعدو صديقاً والصديق عدواً. وهذا بالضبط ما يفعله إعلام النفط، حيث يصبح التطبيع حكمة والاستسلام واقعية، وعداء "إسرائيل" تجارة كاسدة، كما تصبح جارة فيما إيران عدوة، والتعايش معها ذروة سنام الإيمان، بينما الحوار مع إيران يعادل السبع الموبقات. وبما أنّ اللغة المستجدة تعتدي على المشاعر وليس على الفكر فقط، فقد جعلت من مشاعر شعوب إعلام النفط ـ متابعيه بصدق وليس شعوب الخليج ـ متبلدة، ولا تحركها أي معانٍ مثل الكرامة والنخوة ورفض الذل واستنكار الخضوع. وبما أنّ لغة "أورويل" خالية من المتناقضات، فإنّ هذه الشعوب المستكينة لا ترى تناقضاً بين استكانتها المذلّة تجاه "إسرائيل"، وتجاه قروسطية أنظمتها وبين ثورتها ضد الحكم في لبنان والعراق وإيران مؤخراً، فهم حقاً يتكلمون"نيوسبيك" لغة الأخ الأكبر ـ إعلام النفط ـ في الرواية.

منذ خروج بعض الناس إلى الشارع في بعض المدن الإيرانية، على خلفية قرارٍ حكومي برفع سعر البنزين، سخَّر النفط أدواته بما فيها لغته لتسعير النار. وبدأت مواقع التواصل في بلاد شعوب إعلام النفط تعج بالتحريض على "الثورة"، ونُفخت في أرواح كل المستكينين وهج جيفارا وسطوع عبد الناصر، وبدأت تعجّ صفحاتهم بمقطع مقابلة بن سلمان حين قال "سننقل المعركة إلى وسط إيران"، وتماشياً مع لغتهم الجديدة ـ "نيو سبيك" ـ لم يلحظوا أيّ تناقض بين طرحهم وقرحهم، فالخطاب السعودي المعلن رسمياً وإعلامياً وشعبياً، هو رفض التدخل الإيراني في شؤونهم الداخلية، وأنّ هذا التدخل هو السبب الرئيسي للعداء والمواجهة، فيما لا يرون في ثورتهم وما يتناقلونه من مقطع فيديو لابن سلمان، أي تدخلٍ في شؤون إيران الداخلية، كما لا يرون أي تناقض بين استهجان تصريحات الإمام الخامنئي عن المخربين الذين يقومون بأعمال شغب ـ حيث ميز بينهم وبين الشعب الإيراني ـ وتأييد فكرة التخريب في ذات الوقت عبر طرحهم أنّ الهدف هو تغيير "النظام" في إيران، وأنّ هذا هو السبيل الوحيد للتغيير الإيجابي في المنطقة، وغنيٌّ عن القول هنا أنّ المقصود بالتغيير الإيجابي هو الرضوخ للمشيئة الأمريكية والغربية.

حتى أشد الأعداء لَدَداً لا يمكنهم اتهام الحكومة الإيرانية بالغباء، فالأعداء قبل الأصدقاء يعترفون بالذكاء الاستراتيجي الذي تدير به القيادة الإيرانية سياساتها الداخلية والخارجية، لذلك فقد استهجن البعض توقيت قرار الزيادة لا القرار بحد ذاته. حيث إنّ هناك ساحات ملتهبة في لبنان والعراق تستهدف إيران ومحورها تلطياً خلف حاجاتٍ معيشية، فيما اعتبر أعداء إيران إقليمياً ودولياً أنّه القرار الذي بألف خطأ، على قاعدة المثل العربي "غلطة الشاطر بألف"، فبدأوا بالتجييش والتحريض وسكب وقود الفتن، وأوغلوا في الحماقات حد تقسيم إيران إلى أقاليم وأعراق ودول، ولم يتبقّ سوى إجراءات شكلية ليقوم الرئيس روحاني بتوقيع مراسيم الاعتراف بالأقاليم والدول المستقلة. والغريب أنّ هذا الإعلام الذي يدعي الواقعية حين يتعلق الأمر بمقاومة العدو الصهيوني، يخرج من المجرة كلياً وهو يلاحق دخان الأوهام حين يتعلق الأمر بإيران، والحقيقة أنّه لم يُعهد على القيادة الإيرانية سياسة ردات الفعل، بل كانت دائماً سياسة الفعل المدروس مسبقاً على كافة المستويات، وحين تم اتخاذ القرار بزيادة أسعار البنزين، لم تكن رقعة الاحتجاجات في جوار إيران وإقليميها غائبة عن ذهن صانع القرار، كما أنّها ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تحاول فيها الولايات المتحدة وأتباعها في المنطقة، افتعال ما يبرهن على فعالية العقوبات الأمريكية وعقم اقتصاد مقاومة الهيمنة.

يعاني العقل الاستراتيجي الأمريكي من ترهلٍ بيّن، ويبدو هذا الترهل في طريقة إدارة الملفات الشائكة منها واليسيرة، حتى أنّه يعاني من معضلاتٍ كبرى في إدارة مناطق نفوذه التاريخية، لذلك فهو حين يتمخض عن مخططاتٍ وأفكار تبدو كأنّها لا تصدر عن إمبراطورية تربعت على عرش الكوكب مناصفة لأكثر من نصف قرن، ومنفردةً به لعقدين كاملين، لذلك فهو يكتفي بما يبدو أنّها إنجازات تكتيكية على حساب المآلات الاستراتيجية، وخروج ترامب من الاتفاق النووي وانتظار هاتف إيراني ليس ببعيد، كما ليست بعيدة هي تصريحات المُقال جون بولتون عن إلقاء خطاب في طهران عام 2019، وهو ذات المنطق الذي يجعل ركوب الحراك الشعبي في أيّ بقعةٍ معادية للهيمنة الأمريكية، حدودًا قصوى لفاعلية السياسة الأمريكية، وما يحدث في إيران ليس أمراً مفاجئاً أو مستجداً على الواقع أو العقلية الإيرانية، وسيتم التعامل معه بأقصى درجات الوعي بمخاطر التربص والانزلاق، ولن يبقى من المشهد سوى أطلال اللغة الجديدة، التي زرعها النفط في عقول شعوبه مترامية الأطراف متهالكة الفكر.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف