معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

عندما تقع الثورات في فخي التوقيت والامتطاء
13/12/2019

عندما تقع الثورات في فخي التوقيت والامتطاء

علي رباح - باحث سياسي

تنطلق الثورات من خلفيات متعددة، وأزمات متنوعة، منها سياسية ومنها اقتصادية معيشية ومنها ايديولوجية وغيرها من الخلفيات، ولكنها تشترك جميعها حول نقطة محورية وهي رفض واقع مفروض وتجاوز لحدود السلطة من قبل الحاكم الذي قد يكون شخصًا أو منظومة.

الملفت أن بعض شرارات هذه الثورات تكون ملتبسة وضبابية، في حين أن الكثير منها واضح المعالم لا غبار عليه. هذه الالتباسات مردها الى تدخل ما لإشعال فتيل هذه الشرارة بطريقة ابداعية فنية تكشف عن مهارة بعض اللاعبين وراء الكواليس الأمنية والاستخبارية، والتي يتطلب الانتباه لها وكشفها عمقًا في التفكير وخبرة في مجال كشف السياسات التي يتبعها هؤلاء في مجال تخريب الدول تحت شعارات براقة تستقطب العدد الكبير من الناس العاديين الذين يتكلون على المعلومات السطحية في اتخاذ مواقفهم السياسية.

لست في وارد تهميش الأسباب الدافعة الى الثورات، بل على العكس، ما تعيشه مجتمعاتنا اليوم لا ينتج أقل من ثورة تنخرط فيها كل أطياف هذه المجتمعات، إن حُدِّدَت جيدًا البوصلة وتم الاتفاق على اتجاهها، لأن البوصلة أهم من الساعة، اي أن تحديد الاتجاه أهم من سرعة الانطلاق والمسير، فتعدّد البوصلات واختلاف زواياها يؤدي الى صراع في بلورة البرنامج وصوابية الاتجاه، فتسقط الثورة قبل أن تولد، أو لا يُكتب لها النجاح، لأنها حملت في طياتها العامل الأساسي في انهيارها.

إذا أردنا مواجهة الفساد لا بد ان نعرف من هي الجهة التي أسّست له

تنطلق الاحتجاجات، وسرعان ما يتسرب اليها المستثمرون والمراهنون، الذين اعتادوا الرهان على لعبة سباق الخيل، فاختاروا الاحتجاجات وامتطوها، ليجعلوا منها فرسًا ضائعةً في فوضى الصياح والتشجيع، فتُصبح هذه الاحتجاجات في حالة اللاوعي ويصبح همها ارضاء المستثمرين والمراهنين وتنسى ما تريد ولما هي في السباق وكيف وصلت الى ميدان هؤلاء المتاجرين بجوعها وتعبها.

في لبنان، بعد القرار الاستفزازي لوزير الاتصالات محمد شقير بفرض الضريبة على مكالمات الـ"واتساب"، نزلت الناس لتطالب بحقوق كثيرة وضائعة معظمها معيشية ومطلبية محقة. وفي غمرة الضباب، نزل المستثمرون والمراهنون أيضًا، وبدأ حرف الاتجاه ولم يتم التوافق على البوصلة، فانسحب جزء يُعتد به من المحتجين من الشوارع، وتشتتت الاتجاهات وضاعت الثورة لتصبح اخيرًا عمليات قطع طرقات تصعد وتهبط وفقًا لمسار المفاوضات السياسية حول اسم الرئيس المكلف تشكيل الحكومة.

لعبة الاعلام في اطلاق الشرارة

يستخدم الممتطون لعبة خطيرة في عملية التلقين والتنميط والتأطير والتوجيه وهي الاعلام، الذي يعلم تماماً ان الناس تتكل على معلوماته السطحية في عملية تكوين الرأي العام، فيبدأ اللعب بالصورة وتحريك المشاعر. يؤلفون البروباغندات ويتفنون في تأجيج المشاعر وايقاظ الدفائن ليصلوا الى مبتغاهم.

يجب تحديد البوصلة والاتجاه الصحيح والتصويب باتجاه رأس المشكلة بدل التلهي بزواريب الازمات

وفي ما يسمى "انتفاضة" لبنان، حاول بعض الاعلام تحريف الاحتجاجات واختلاق الاكاذيب، وأخذها الى الميدان الذي يريده البعض لتصفية حسابات سياسية ممتدة من واشنطن وليس انتهاء بالرياض.

الثورة الرومانية

ان التاريخ القديم والمعاصر يذكر لنا الكثير من هذه الحالات، وما تجارب تشيلي وفنزويلا وبوليفيا والدول العربية والافريقية وبمعظمها الا امثلة حية تشهد بهذا الامر، ولكنني سأكتفي بذكر تجربة الثورة الرومانية وما حصل مع الشعب الروماني عام 1989 وكيف هو الوضع بعد ثلاثين عاماً.

في كانون الأول عام 1989 وعشية الاحتفالات بنهاية العام، وبعد أقل من شهر فقط على سقوط جدار برلين، بدأت تلوح في الافق بوادر سقوط حكم نيكولاي تشاوشسكو، ففي أقل من أسبوع، انهار آخر معاقل الستالينية في أوروبا الشرقية تحت أنظار ملايين المشاهدين، الذين تابعوا على الهواء مباشرة - لأول مرة - انتفاضة شعبية كما لو كان الأمر متعلقا بمسلسل تلفزيوني، تتابعت صور العنف فيه حلقة تلو الأخرى، لتختتم في النهاية بمشاهد إعدام الرئيس.

يجب الاستفادة مما هو موجود حالياً وعدم تدميره بحجة اعادة البناء

المشاهد استحوذت على انظار العالم رغم الانزلاق الذي وقعت فيه وسائل الإعلام التي فشلت حينها في تقديم تغطية إعلامية صائبة، لا يزال تاريخ وسائل الإعلام يحفظ لنا تعثرها.

القصة بدأت من تيميشوارا:

بلدة تقع بالقرب من الحدود مع المجر، على بعد 350 كلم من بوخارست العاصمة، نحن الآن في 17 كانون الأول/ديسمبر 1989، عندما انتهت مظاهرة ضد طرد القس البروتستانتي "لازلو توكس" المعارض للنظام بحمام من الدم، لقي خلاله الآلاف من الأشخاص مصرعهم وتم عرض صور لضحايا قتلوا بالرصاص وبالدهس تحت دبابات سوفياتية خلال قمع المتظاهرين بمدينة تيميشوارا على القنوات التلفزيونية المؤيدة للثورة، وبُثت صور بلغت من العنف حد توليدها شعوراً بالصدمة لدى المشاهدين، وزادت قوة الصدمة عندما تحدثت وسائل الإعلام عن عدد القتلى الذين وصل إلى 4630 شخصاً. معلومات نشرتها وكالات الأنباء اليوغوسلافية والمجرية، وهي نفسها المعلومات التي قدمتها وكالة الأنباء الفرنسية، وعلى اثر الصدمة تفجر الوضع في بوخارست وهوجم قصر تشاوشسكو واعدم حينها.

اتضحت الحقيقة بعد ايام على اندلاع الأحداث، صور الجثث كانت مفبركة، والإحصاءات الرسمية للانتفاضة الرومانية أكدت سقوط 39 قتيلا فقط في مدينة تيميشوارا، نتيجة صدامات مفتعلة، فلم ير عرّابو الثورة الا القول ان تشاوشسكو يستحق القتل لأنه شيوعي ولأن زوجته تمتلك مئات المعاطف من جلود الحيوانات.
يقول كريستيان ديلبورت (مؤرخ) منتقداً ذلك التلاعب الذي سيظل رمزاً للتجاوزات الإعلامية: "يجب تطعيم وسائل الإعلام بلقاح ضد التلاعب خاصة ذلك المشابه لما حدث في تيميشوارا".

ولأن الثورة امتطاها حينها المحور الرأسمالي الامبريالي، اعتقد الشعب الروماني انه سيعيش مثلما يعيش الناس في أمريكا، وبمرور الوقت تغيرت هذه المقولة لتصبح، سيعيش مثلما يعيش الناس في ألمانيا، وبعد مرور عام واثنين وثلاثة وأربعة وخمسة أصبحوا يقولون سيكون من الجيد أن نعيش مثلما يعيش الناس في النمسا، وبعد عشرين عاما وجدوا أنفسهم يعيشون في بلد فقير مسلوب الارادة والثروة كما الثورة يتنافس مع المجر.

ذكر لي احد الاصدقاء الذين يعيشون في رومانيا أن هناك سؤالاً لطالما راود الكثير من الرومانيين بعد الثورة وخصوصاً بعد فترة يُعتد بها من الزمن: "ترى هل كان الامر يستحق كل هذا النضال؟ وهل يستحق هذا الثمن؟.

وهذا السؤال يكشف عن عمق خيبة أمل الرومانيين وأن ما قدموه تحول الى ارباح حاز عليها المراهنون والمستثمرون بدل أن يتحول ناتج هذه الثورة تقدماً لبلدهم وقوة ومنعة واستقلالاً اقتصادياً وسياسياً.

هذا أحد الامثلة التي تُظهر عملية الفبركة والاطلاق والركوب لثورات، أُريد منها الاستثمار في البازار السياسي على الساحة الدولية، بمعزل عن وجود مطالب محقة والتي لا تهم راكب الموجة الذي سرعان ما ينكشف وجهه الحقيقي بعد انتصار الثورة ليُصبح الواقع الجديد أسوأ من قبله او مثله او لا يوصل الى اي مكان ليبقى البلد مرتهناً للعبثية والانهيار كما يحصل في ليبيا الآن.

ما الحلول ازاء منظومة الفساد؟

أولًا: يجب أن نعرف أننا مستعمرون اقتصادياً وثقافياً وتربوياً وان اردنا مواجهة الفساد لا بد ان نعرف من هي الجهة التي أسّست له ومن اعطته الجرعات ليستمر.

ثانياً: تحديد البوصلة والاتجاه الصحيح والتصويب باتجاه رأس المشكلة بدل التلهي بزواريب الازمات التي يتعمد المستثمرون الهاءنا بها، وعندما تنكشف الصورة امامنا ونكتشف الرأس يصبح التعاطي مع المشكلة اسهل من حيث المبدأ وحينها ستكون كل التضحيات مثمرة وستوصلنا الى القدرة للاستفادة من كل نقاط قوتنا وثرواتنا وهذا هو المعنى الحقيقي للاستقلال.

ثالثاً: الاستفادة مما هو موجود حالياً وعدم تدميره بحجة اعادة البناء ووضع اليد مع القوى المخلصة وهذا يتطلب الموضوعية في الاتهام بدل الانسياق في الاتهام الغوغائي الذي يُجَهِّل الفاعل الحقيقي فيستره.

وفي الختام لا يكفي ان نقوم بثورة بل يجب تحديد الانطلاقة والاتجاه والهدف، ونكون حذرين وحساسين تجاه اي محاولة استثمار وضبط الايقاع للخلوص الى النتائج الحقيقية والمحافظة على هذه النتائج وتطويرها، وغير ذلك لن نجد انفسنا الا كرةً تتقاذفها أرجل اللاعبين ولن نعلم اين سيستقر بنا المصير.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف