نقاط على الحروف
إدلب بين القضم السوري والسذاجة التركية
ايهاب زكي
من الأساليب المعتمدة في التضليل البدء من "ثانياً"، في تجاهلٍ متعمدٍ لـ"أولاً"، وهو ما يتيح فرصة تغييب أصل المشكلة، كما يتيح الغرق في تفاصيلٍ لا حصر لها، وهذا ما يحدث تحديداً في الشمال السوري، حيث يُجمع العالم على البدء بالنقاش من ثانياً، لنغرق في تفاصيل سوتشي وأستنة والنقاط التركية ومناطق خفض التصعيد والمنطقة الآمنة وألف تفصيل، فيما الحقيقة أنّه يجب البدء بالشكل المنطقي من أولاً، وهو ماذا تفعل تركيا على الأراضي السورية؟ ولماذا فتحت تركيا حدودها لكل إرهابيي العالم للدخول إلى سوريا؟ ولأن الشكل المنطقي للأشياء يأخذنا لتسلسلٍ منطقي، فإنّ النتائج حتماً ستكون منطقية، فتركيا تمارس عدواناً صريحاً لمجرد وجود قواتها على الأراضي السورية، كما أنّها مارست عدواناً مستمراً منذ تسع سنوات حين شرّعت حدودها كممرٍ للإرهاب إلى سوريا، وفتحت أراضيها لتكون مستقراً لدعم الإرهاب تسليحياً ولوجستياً، وعليه يصبح حقاً مطلقاً وغير قابلٍ للنقاش للدولة السورية، أن تقوم بالسعي للتخلص من الإرهاب وداعميه، كما طرد المحتلين بكل الوسائل الممكنة والمتاحة سياسياً وعسكرياً وشعبياً.
وهذا بالمناسبة ما تقوله الدولة السورية بالشكل الرسمي، لأنّها الجهة الأشدّ اكتواءً بقاعدة البدء من ثانياً، وهي الأكثر درايةً أنّ الحكاية في أولاً، حيث إنّ الولايات المتحدة أولاً سعت عبر أدواتها التركية والعربية لتكون سوريا مستقراً صهيونياً، ويرفرف علم "إسرائيل" في وسط دمشق، ودمشق في هذه الحالة ليست عاصمةً سورية، بل عاصمة لدولةٍ قد تكون سنية، وعلمٌ آخر في دولةٍ أخرى قد تكون شيعية وثالثة درزية ورابعة علوية وهكذا، كما وتصبح سورياً ممراً للمياه التركية إلى "إسرائيل"، وممراً للغاز الفلسطيني المسروق من سوريا إلى تركيا ثم إلى أوروبا، ويستمر القتال الدامي طويلاً بين هذه الدويلات المصطنعة ولكن بعيداً عن أنابيب الغاز وممرات المياه، وهذا الوضوح والجلاء رغم سهولته يبدو مستحيلاً حين ندخل متاهات البدء من ثانياً، حيث الاصطدام بـ"الثورة الشعبية" وتمسك النظام بالسلطة، كما ستغرق بالدموع التركية على الإنسانية الضائعة في سوريا، وستدفنك المشاعر القطرية والسعودية الجياشة على "الدماء المنتهكة" في سوريا، وستزكم أنفك رائحة الديمقراطية الغربية المبتغاة في سوريا، وحينها لا يعود من المهم ما هو ثالثاً، لأنّه سيشبه رابعاً وخامساً وعاشراً وألف مليون، فكلها متشابهات دون حقيقةٍ واحدة، لأنك باتباع من يقفزون عن "أولاً"، قفزت من الأرض الصلبة إلى أرضٍ تميد.
وبما أنّه حين نبدأ من أولاً يصبح المنطق سيداً، يصبح الوجود التركي احتلالاً، فتركيا تعطي لنفسها الحق بالعدوان على سوريا لمجرد وجود سوريين "أكراد" مسلحين على حدودها، بينما ولأنّها تمارس التضليل عبر البدء من ثانياً بوقاحة، ترى في تطهير الدولة السورية لأراضيها من الإرهاب المحلي والمستورد عدواناً، كما أنّ تركيا على مدار الأزمة السورية مزجت بين الوقاحة والسذاجة، حيث قدمت الدعم غير المحدود بكل وقاحة لكل فصائل الإرهاب من "داعش" إلى "النصرة" وكل تلك المسميات، وتعاملت اقتصادياً وتجارياً بالنفط والحبوب وكل شيء مع تلك التنظيمات، وظنّت بكل سذاجةٍ أنّ سوريا أصبحت حديقة خلفية للباب العالي، وحين تعثر المشروع ذهبت مضطرةً إلى أستنة وسوتشي، ووقعت في السذاجة مرةً أخرى حين اعتقدت أنّ سوريا الدولة ستعطيها بالسياسة ما لم تأخذه بالإرهاب، ويبدو أنّ السذاجة أصبحت عادة، حيث تطالب تركيا الجيش السوري بالانسحاب إلى ما وراء النقاط التركية والالتزام بحدود المنطقة الآمنة، وتعلن أنها لن تنسحب من نقاط المراقبة، فهذه النقاط قد سقط الهدف من وجودها لمجرد أن تجاوزها الجيش السوري، حيث إنّها نقاط على خطوط التماس بين الجيش العربي السوري وفصائل الإرهاب لمراقبة الهدنة والمنطقة العازلة، لذلك فقد غدا وجودها غير ذي صفة حتى حسب اتفاقيات سوتشي، فكيف إذا كان هو بالأصل وجودًا غير مشروع.
وكانت اتفاقيات سوتشي قد نصت على انسحاب فصائل الإرهاب من المنطقة العازلة، وفتح الطريق الدولي "إم5" و"إم4"، وفصل ما يسمى بـ"المعارضة المعتدلة" عن الفصائل الإرهابية، وقد تعهدت تركيا بذلك كطرفٍ ضامن، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث ولم تفِ أنقرة بأيٍ من تعهداتها، وحاولت أن تقلد سياسة القضم الذي استخدمتها الدولة السورية باقتدار، لكنها وقعت في فخ السذاجة والوقاحة مجدداً، فتحولت سياسة القضم التركية إلى مماطلةٍ وكسب الوقت حتى اصطدمت بالجدار، ولم يؤدِّ الاصطدام إلى صحوةٍ بل إلى مزيدٍ من سذاجة الوعل الذي يريد أن يوهن الجبال بقرنيه، وهو ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى خروج تركيا بخفّي حنين، وستكتشف تركيا أنّ التحريض الأمريكي على الزَّج بقواتها داخل سوريا مؤخراً، بعد اجتماعاتٍ مع عسكريين أمريكيين ومن حلف الناتو في قاعدة "إنجرليك"، حيث أدخلت ألف آلية عسكرية وخمسة آلاف جندي في الأسبوع الأخير، ستكتشف أنّه مجرد عبث أمريكي بالسذاجة التركية، ولكن على المستوى الشخصي سأكون في أشد حالات التفاجؤ إذا وصلت السذاجة التركية إلى حد الاصطدام العسكري بالقوات السورية، حيث لا تملك تركيا أدنى مقومات الصمود فضلاً عن الانتصار، فليس بمقدورها مواجهة حلف سوري روسي إيراني، خصوصاً أنّها بلا غطاء جوي أولاً، كما أنّ حلف الناتو ليس بوارد التحضير لمواجهةٍ محتملة، لذلك فما على تركيا سوى التعلق بالسلم الإيراني عبر التشبث بمبادرتها، أو سحب نقاطها إلى ما بعد سيطرة الجيش السوري، وانتظار الخطوة التالية التي تقررها دمشق وحلفها.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024
ضاحية السيد: مدينة تسكننا!
16/11/2024
الانهزاميون ينتشون بفائض الحرب والتدمير
15/11/2024