معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

عن فلسطين.. بعيداً عن فن
04/05/2020

عن فلسطين.. بعيداً عن فن "أم هارون" والسياسة

ايهاب زكي

في القصص القرآنية، بعد أنّ نجّى الله بني إسرائيل من فرعون، ورأوا بأمّ العين معجزة شقّ البحر، وبمجرد وصولهم للضفة الأخرى شاهدوا قوماً يعكفون على أصنامٍ لهم، طلبوا من موسى أن يصنع لهم صنماً ليعبدوه. وفي التاريخ القانوني وفي القرن الثامن عشر تحديداً، يحكى أنّ قاضياً فرنسياً شاهد من شرفته جريمة قتل، ورأى القاتل رؤية العين، وحين مَثُلَ أمامه المتهم لم يكن هو القاتل الذي رآه، ولكن من سوء حظ البرئ أنّ جميع الأدلة كانت تدينه فحَكَم عليه بالإعدام، وبعد إعدامه وتحت وطأة تأنيب الضمير، اعترف القاضي أمام الرأي العام بفعلته، لكنه استمر في عمله، حيث تفاجأ يوماً بأحد المحامين المترافع أمامه يرتدي الروب الأسود، وحين سأله عن السبب، قال حتى أذكرك بظلمك بإعدام إنسانٍ برئ، ومنذ ذلك الوقت هنا لا زال المحامون يرتدون ذلك الزيّ، وعليه فإنّ معرفة الحق والتيقن منه ليس سبباً على الدوام لاتباعه، وليس كافياً للردع عن ارتكاب الموبقات، لذلك فإنّ أسوأ وسائل إعادة الضالين إلى جادة الصواب، هو شرح الحق، لأنّهم يعرفونه أكثر من أسمائهم، وقد يكونون أكثر درايةً به من الشارح.

ومن الخطايا الجارحة لكل جبين متسامٍ أن نضع فلسطين في قفص الاتهام أمام هؤلاء، ونستجمع كل بلاغتنا في الدفاع عنها، لأننا بذلك نكون أطحنا بها من على منصة القضاء، التي هي ملكها وحدها إلى قفص الاتهام، ورفعنا هؤلاء الشرذمة القليلين إلى المنصة ليقضوا في أمرها. ولكن أن يفعل ذلك البعض عن حسن نيّة هو أمرٌ وارد، خصوصاً أنّ العبث المتعمد بالوعي على مدى سنوات الصراع، أدّى إلى ما يشبه الانتحار العقلي، وأول مظاهر هذا الانتحار هو ترسيخ قاعدة أنّ فلسطين وطنٌ للفلسطينيين، وبناءً على هذه القاعدة الانتحارية، أطبق الموت على حياة أمة وليس أماتها دماغياً فقط، فقد أصبحت مثلاً دعابة الجزر "الإماراتية" في ذات الميزان بل أثقل، وأصبح التبرع بريالٍ جهاداً ومجهوداً لا تطيقه إلّا الأنفس الشُم، وأصبحت فلسطين ذاتها جزراً متناثرة، حتى أنّها لم تعد جغرافيا ولا تصلح حتى عقار، بينما فلسطين هي الحاكمة الناظمة، فكل ضادٍ على وجه البسيطة، ولو اختفى صاحبها تحت جليد القطب الشمالي، سيظل محنيّ الهام منكس الجبين، وكل شهادة توحيد أينما بررت وهربت، ستظل منفية بالشرك أو مجروحة بالنقص بالحدّ الأدنى، طالما ظلت نجمة زرقاء تنجس هواء فلسطين برئتيها.

ومن "أناكيدات" - ولا أعرف إن كان يصح هذا اللفظ لغوياً - لكن لشدة مراكمة النكد قد تكفر الضاد بقواعدها، فمن "أناكيدات" الدهر أنّ يوضع الدفاع عن فلسطين خصوصاً مهاجمة الدراما السعودية التطبيعية، في إطار الحرد السعودي القطري، وأنّ مشكلة التطبيع الدرامي السعودي هو فقط الكيد القطري، وحتى الآن لا أعرف أيضاً موضع فلسطين من هذا الحرد المتأزم، أهي الحماة أم الكنة أم السِلفة، ولكني أعرف أنّ مظفر النواب حين قال "القدس عروس عروبتكم"، لم يكن يقصد تزويجها لاول حارس نفط أو حارس غاز، حتى ننفر الآن خفافاً وثقالاً لنحدد مكانها من المشكلة وصفتها فيها، ولنضع حلولاً للأزمات الأسرية. أوليس هذا من زواريب البؤس الملطخ بالرزايا، والرمضاء المغمسة بالمرار؟ أولسنا جديريون باللعنات إن سمعنا وأطعنا، وانسحقنا في تلك الزواريب، التي تمتد أمامنا بفعل فاعل؟ وليست مجرد صدفةٍ عبثية طرأت من عبث التيه والضياع الذي نحياه، فمن وضع "أم هارون" أمام ناظريك لا يريد أن يذكرك بسماحتك التاريخية، بل يريد سذاجتك الحالية والمستقبلية، يريد منك أن تكون ممتناً للذّل على جبنك حارساً لمن أذلّك.

شخصياً لا أتابع المسلسلات لأنّي أرى فيها ابتزازاً موصوفاً، يبتزونك عاطفياً لتبقى مسمراً أمام الشاشة على مدى أيامٍ أو شهور المسلسل، ولكن الدراما لم تعد مجرد تسلية وعملية ابتزاز لأهدافٍ تجارية، بل تحولت إلى آلةٍ جبارة لنحت الوعي، وفي حالة "أم هارون" وأشباهها لصقل الذّل، ولا أريد مقارنة الثرى بالثريا، حيث مسلسل "حارس القدس" الذي قطعاً هو فاشلٌ تجارياً مقارنة بحراس الذل في "أم هارون" وأشباهها، لكنه نحاتٌ باهر للنور، يعيد شعاع النور إلى مصدره، ليتحسس الناس أبصارهم، ويعيدوا اكتشاف البديهيات، ويعرفوا وظيفة النفط وأخفى، وظيفة تلويث زكيّ الدم طهور السرائر، وظيفته أنّ يجعل من أمةٍ بتاريخها ورسالاتها وعقلها وضميرها وحاضرها ومستقبلها جارية بين خطين أزرقين، فالنفط ومنذ ابتلينا به لا وظيفة له غير تلك، ولن تكون له مهما حاولنا تطهيره غيرها، فالنفط لم يعط فلسطين مالاً، بل كان يتحرى من بيده مطرقة، فيعطيه ليشتري مسماراً، فيغريه بدق نعش فلسطين وقضيتها. وفي النهاية لا أريد أن أقول لا تصدقوا النفط ولو تعلق بأستار الكعبة، لأنّه لا رغبة لدي في قول البديهيات.  

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف