نقاط على الحروف
أيام التحرير.. على العهد
محمود ريا
قبل عشرين عاماً.. كنا هناك
تجوّل مراسلونا وأصدقاؤنا الزملاء في أنحاء تلك الأرض.. لم يتركوا مكانا لم يزوروه.. لقد كانوا "في قلب الحدث" فعلاً لا قولا، إلى درجة أن سيارتهم استُهدفت مباشرة من دبابة للاحتلال الصهيوني قرب مركبا، فنجا الزميلان الصديقان أمير وعصام بقدرة قادر، وتفحّمت السيارة بالكامل.
جال "الشباب" من البحر إلى أقصى الجبل، نقلوا الصورة وعاشوا اللحظات. كان علي، دينامو الإعلام المقاوم، يزودنا بكل جديد، نحن القابعين في العاصمة أمام شاشات التلفزة، نشاهد ما يراه أصدقاؤنا بأعينهم، فلا نصدق.. ولا يصدقون.
أين أصبحتم؟ كم تقدمتم؟ هل فعلاً تحررت هذه القرية، وتلك، وصار هذا الموقع حراً، وذاك؟ أسماء القرى كنا نسمع بها عندما نتابع أخبار القمع والرعب التي كان العدو يزرعها فيها، وفي ذلك اليوم بتنا نسمع زغاريد النسوة فيها وهتافات الرجال والأطفال، لا من بقوا فيها فقط، ولكن من عادوا إليها وعادت إليهم، ليرتسم مشهداً لم يكن بإمكان أحد أن يتخيّله، وإن كنا موقنين أنه سيحصل، بتضحيات المجاهدين والشهداء وصبر الأهالي والعوائل، دون أن نعرف كيف سيكون.. وها قد عرفنا.
جاءت الصور، وجاءت الفكرة.. وجاء القرار.
عدد ملوّن بمناسبة عيد التحرير.. وهذا أمر جديد على "العهد".
في عودة إلى تلك السهرة الرائعة في مكتب "أبو علي"، تحمل الذاكرة صور عبد الحسين وسعد ومصطفى ومحمد وأبو عباس والشباب جميعاً، في تصميم العدد والغلاف وكتابة تعليقات الصور، والاختلاف في كيفية توزيع الصفحات، وانتقاء الصور داخلها، اختلاف يهدف إلى أن يخرج العدد في أبهى صورة، إنه العدد الملوّن الأول، إنه عدد التحرير.
وانتظرنا صدور الصفحات البيضاء الموشاة بأجمل الصور، لنعيش تجربة جديدة، في قلب التغير المحوري الذي يشهده العالم، تغيّر الانتقال من الاحتلال إلى التحرير، من المعاناة إلى الحرية، من هيمنة العدو.. إلى الانتصار عليه.
وانطلقنا إلى بنت جبيل.
إنه اليوم الموعود، ولا بد أن نكون عليه من الشهود.
كنا نصل إلى جويّا ونتوقف.. اليوم الطريق مفتوح.
هذا معبر بيت ياحون، كم من القصص يرويها هذا المكان.
بعد المعبر هذا مفرق برعشيت، وبيت ياحون البلدة، وكونين وصعوداً نحو المثلث..
عفواً.. توقف هنا، لا يمكنك أن تكمل الطريق. ليس حاجزاً للاحتلال ما يمنعك من التقدم، أبداً، بل هو بحر البشر والسيارات الذي كان يزحف إلى ملعب المدينة، يقول لك توقف هنا، ترجّل، قبّل الأرض التي تحررت بطهر دماء نزفت، انظر إلى التلال المجاورة، وتخيّل كيف نُفّذت هذه العملية وتلك، من التي كنتَ تسمع عنها، وها أنت تلثم عبير أقدام المجاهدين على ثراها.
في الملعب يحصل الكثير، لا يمكن للذين هناك أن يدركوا ما حصل، فكيف بالذين لم يحصلوا على "ليلة القدر" هذه؟ وتلصق في الذهن بما لا يمكن أن يمحوه الزمن تلك العبارة التي أطلقت من على بعد مئات الأمتار من الحدود: واللهِ، إسرائيل هذه أوهن من بيت العنكبوت.
ربما تكفي تلك الساعات القليلة في بنت جبيل لتملأ حياة المرء ـ لعشرات السنين القادمة ـ عزّا وفخراً وكرامةً.. ومزيداً.
بعد أيام تأتي الدعوة من العزيز علي: جولة على مواقع الاحتلال "السابقة"، وعلى الحدود.
المشاهد التي يُحكى عنها أيضاً لا تُحصى، من علي الطاهر إلى الزفاتة إلى قلعة الشقيف. في موقع العبّاد الذي كان مقسوماً بشريط شائك.. كان الجندي الصهيوني ينادي نجم الشاشات: "شوآيب"، في خطوة تظهر حجم الجرح الذي تركه هذا الإعلامي في وجدانهم، هو وشاشته المنيرة وخطّه المجاهد.
بعد عشرين عاماً، لا نعود إلى الوراء، لأن الذاكرة لم تغادر تلك المشاهد الرائعة، وما زالت تعيش هذه التفاصيل لحظة بلحظة.
بعد عشرين عاماً.. نحيا التحرير، لا كماضٍ جميل، وإنما كحاضر مستمر، يتجدد كل يوم، ويصبح أكثر سطوعاً وأكبر تأثيراً، ومعه "العهد"، تبقى على العهد.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024
ضاحية السيد: مدينة تسكننا!
16/11/2024
الانهزاميون ينتشون بفائض الحرب والتدمير
15/11/2024