معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

أين سنكون في عالم ما بعد العصر الأمريكي؟
01/06/2020

أين سنكون في عالم ما بعد العصر الأمريكي؟

ايهاب زكي

لم تعد التوقعات بانهيار الإمبراطورية الأمريكية ضرباً من خيالٍ أو شذراً من أوهام، فالولايات المتحدة تئن تحت وطأة الكثير من الارتجال السياسي داخلياً وخارجياً، لذلك لم يعد السؤال الأكثر إلحاحاً هو متى وكيف ستنهار أعظم إمبراطوريات التاريخ البشري، بل السؤال عن شكل العالم فيما بعد الانهيار، وسؤال سابق عن جهوزية العالم لاستقبال هذا الانهيار وقدرته على تجاوز مفاعيله، ومن المحتم أنّه إذا كان هذا السؤال الأخير في مرحلة الاستشراف التحليلي، فإنّه في خانة الاستعداد في مختلف العواصم المعنية، وما يؤكد هذا الاستعداد هو السياسات المتبعة من تلك العواصم على اختلاف أهدافها ومصالحها، خصوصاً في النصف الأخير من هذا العقد، والتي تراوحت بين المداراة السياسية وقضم النفوذ، أو ما يمكن تسميته بمراكمة النقاط، وهذا ما جعل الولايات المتحدة تبدو في حالة تخبط وتُمنى بالكثير من الخسائر في ساحاتٍ متعددة.

من المفيد استعراض بعض ما قاله علماء الاجتماع والسياسة وخبراؤها حول رؤيتهم عن انهيار الولايات المتحدة. يقول مثلاً الباحث الروسي اليكساندر نازاروف" إن التضخم في الولايات المتحدة سيصبح مثل زيمبابوي خلال عام أو عامين"، وزيمبابوي عانت من تضخم بنسبة 79 مليار، قبل أن تتخلى عن عملتها نهائياً. فيما باتريك جيه كونن وهو رجل معروف بتعصبه وعنصريته، وكان مستشاراً لثلاثة رؤساء أمريكيين، يقول في كتابه "موت الغرب" "إنّ موت الغرب ليس تنبؤاً بما سيحدث، إنّه تصوير لما يحدث، إنّ أمم العالم الأول تموت، ليس بسبب أشياء تحدث في العالم الثالث، بل بسبب أشياء لا تحدث في الوطن". ويقول يوهان غالتونغ المرشح لنيل جائزة نوبل عام 2000، "إنّ دور الولايات المتحدة سينحسر خلال الفترة الرئاسية لدونالد ترامب، وإنّ انهيار الإمبراطورية الأمريكية سيكون بحلول عام 2025" وذلك قبل أنّ يعود ويضع العام 2020 لتحقق ذلك. ويقول المؤرخ البريطاني بول كينيدي في كتابه "سقوط القوى الكبرى" الصادر عام 1987 " كانت أمريكا ستلقى نفس مصير بريطانيا من الاضحملال، لكنه لأسبابٍ كثيرة، فإنّ هذا الاضمحلال يحدث ببطء وهدوء"، ومن الواضح أننا اليوم في حالة الذروة من صيرورة الاضمحلال البطيئة لكنها الصاخبة.

بغض النظر عن اختلاف منطلقات وتوجهات أولئك المستشرفين وحيثياتهم التحليلية، فإنّ الواقع على جميع الأصعدة يشي بأنّ الانهيار مسألة وقت، وأذكر وصفاً للأستاذ محمد حسنين هيكل عام 2013، حيث قال "إنّ الولايات المتحدة قبة فولاذية تتصدع، ليس المطلوب منا أنّ نزيد شقوقها، بل على الأقل ألّا نساهم في رتق صدوعها". لكن هذه النصيحة لم يعتمدها من وُجهت لهم، حيث أشقياء الولايات المتحدة في عالمنا العربي، الذين حاولوا رتق صدوعها بمحاولة تمرير ما تسمى بـ"صفقة القرن"، كما حاولوا رتق صدوعها بـ"450"مليار دولار عداً ونقداً، خلافاً لصفقات الأسلحة الفلكية، كما حاولوا عبر حرب أسعار النفط، كذلك عبر استعداء إيران وضرب سوريا ومهاجمة حزب الله، وعبر محاولات تفكيك العراق وتدمير ليبيا واحتلال اليمن، ولا زالوا يفعلون ذلك عبر موجة التطبيع المحمومة وسيظلون، ولن يتركوا وسيلة ولا رذيلة إلّا وسيتخدمونها في محاولات الرتق، التي تأتي على الدوام بمفاعيل عكسية، وهذه العكسية ليست بسبب قلة الإمكانيات والموارد لهؤلاء الأتباع، بل لأنّ العقل المدبر وهو أمريكا ذاتها، يعاني من حالة خرف، وعليه فإنّ حركة الأطراف والذيول تكون بلا حكمة أو بصيرة.

مدير تحرير مجلة "نيوز ويك" الأمريكي من أصلٍ هندي فريد زكريا يقول في بداية كتابه "العالم ما بعد المرحلة الأمريكية"،"هذا ليس عن سقوط أمريكا بل عن صعود الآخرين"، ومما أعتبره طرفةً ما قاله عام 2009 عن إيران، حيث قال "إن إيران  دولة صغيرة بحكومة لا تتمتع بشعبية، وهي ذات اقتصادٍ محطم، وتسعى لخلق مشاكل وقلاقل، وعلينا أن نسعى لاحتوائها ونستطيع ردعها، فاليوم نرى مثلاً السعودية و"إسرائيل" في خندقٍ واحد، وخلال 25 عاماً لن يكون النظام في إيران قادراً على العمل إن لم يكن ميتاً بالفعل، وستبقى الحكومات الغربية كما هي الآن، وعلينا أن نوقن أننا أبقى منهم"، والطرافة أنّه مرّ أحد عشر عاماً على هذا الحديث، ولكنه يبدو وكأنّه قيل اليوم، الفارق بين الزمنين هو انقلاب الصورة، حيث تقوم "الدولة الصغيرة" حسب تعبير زكريا بطعن الهيبة الأمريكية في بؤبؤها في عين الأسد، وقبلها بإسقاط الطائرة الأمريكية الأثمن واحتجاز الناقلة البريطانية، وطعنة في الخاصرة في فنزويلا، وطعنة في القلب بإحاطة "إسرائيل" بأحزمةٍ من الصواريخ، وعلى زكريا أن يسأل نفسه إذا كان هذا فعل "دولةٍ صغيرة"، فكيف ستواجه أمريكا الدول الكبرى؟ ولكن الأهم أن نسأل أنفسنا في هذه المنطقة، أين سنكون في عالم ما بعد العصر الأمريكي؟

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف