نقاط على الحروف
حكايتُنا على مواقع التواصل الاجتماعي
ليلى زغيب
.. وأخيراً، وصل المقالُ إليك! كم كانت رحلةً شاقةً ومتعبة، بين الكمّ الهائل الوافد إليك من آراء وصور وبثّ مباشر، إضافةً إلى المقالات والقضايا التي تدورُ في فلك حساباتك على مواقع التواصل الاجتماعي!
قبل البدء بقراءة المقال، لا بدّ من شهيق وزفير، لكثرة ما رصدته عيناك طويلاً وأنت تتصفّحُ هذا الفضاء بكل تناقضاته. ولكن معذرة، سؤال: هل تذْكُر ما وقعت عليه عيناك أخيراً قبل فتح رابط المقال؟ إن تذكّرتَ، فهذا مدهش! وإن لم تتذكّر، فهذا أمرٌ بات طبيعيّاً، غالبيتُنا نخضعُ لإغراء "التّنويم الرّقمي"، آفتُهُ الأولى النّسيان.
القصة الحقيقية
أمين، شاب يبلغُ من العمر 20 عاماً، دفَعَه الفقرُ المدقعُ الذي عانى منه أهلُ الجنوب اللّبناني في ظلّ الحكم العثماني إلى الهجرة نحو أميركا اللّاتينية عام 1900. هاجرَ أمين وانقطعت عنه الأخبار حتى بلغ بعائلته اليأسُ من بقائه على قيد الحياة. بعد مرور 18 عاماً على غيابه، وصل أخيراً بريدٌ باسْمِ أمين إلى مختار القرية. سريعاً، استدعى المختارُ عائلةَ أمين ليفتح الظّرف في حضورها. جاءت العائلةُ تعلوها ابتسامةُ الأمل والفرح ببقاء أمين على قيد الحياة وإرساله لها المال ليُعينها على الجوع والفقر. حضر الجميع، والعيون شاخصةٌ نحو الظّرف. أدخل المختار يدَه إلى داخل الظّرف المدموغ بطابعٍ بريديّ من المكسيك. مرّر يدَهُ في كلّ زوايا الظرف، لم يجدْ سوى شيء واحد، لا يُشبه ملمسَ المال. أخرجه من الظّرف، وإذ به صورة لأمين تبدو عليه هيئة السّادة، بشاربَيْن مَعْكوفين، مرتديّاً بزّته السّوداء الأنيقة! خفَتَ بريقُ عيون العائلة، وخابت ظنونُها "ما هكذا ظنُّنا بك يا أمين". مزّق المُختار صورة عَمِّه أمين ورماها في كانون النّار، قائلاً بغضب: صورة!! ماذا نفعل بصورتك؟ هل ستُطعمنا؟ هل ستُريحنا من ثقل الضرائب المفروضة علينا من الاحتلال؟! عَلِمَ أهلُ القرية بذلك، التزموا الغضب الصامت رأفة بقلوب العائلة البائسة. لم يعد أمين إلى بلده يوماً، ولم يرسل أيّ معونة لأهله. تناقلَ أهلُ القرية حكايته الحقيقية، بينما صورته الأنيقة صارت رماداً.
نسخة متخيلة عن القصة الحقيقية
لنتخيّل معاً، اذا جرت أحداث هذه القصة في أيّامنا هذه. لا شكّ أنّ السّيناريوهات ستكون كثيرة ومتعددة وخلاّقة. ولكن سأكتفي بإيراد سيناريو واحد:
منذ لحظة وصوله الى المكسيك، أخذ أمين يلتقط صور السّيلفي وينشرها على حساباته على مواقع التّواصل ليُبادله أصدقاؤه القلوبَ ولايكات الإعجاب. الشّابُ جميلٌ، يُشارك يوميّاته الآخرين، "يستعرض" آراءه في السّلطة القابضة على البلد المأزوم بكلّ جرأة. هو غيرُ متحزّب، يُسِمُ المتحزّبينَ بتُهمة "التّبعية العمياء". كَثُرَ متابعوه، غالبيتُهم من الخصوم حتى صار من النّاشطين المؤثرين [حصراً في الفضاء الرقمي]. ولكنّه بقي في عين عائلته، ذلك الشّاب الذي رحل إلى الغربة ليُعينهم، والذي بانَ أنّه متنصّلٌ من مسؤولياته، ومُنزلقٌ في مستنقع الفقّاعات الرّقمية والمزايدات. فلا لايك حصده من عائلته يوماً، إنما فقط في القلب دعاءٌ للعودة إلى "الحجم الطبيعي" وانتظار ما سيَجنونه ربّما من "بركات" آرائه الجريئة.
ديكتاتوريون يغرّدون
من النّادر جداً بل من عجائب الفضاء الرّقمي، أن يمرَّ يومٌ على الجمهور اللّبناني ولا يُثار فيه جدلٌ من العيار الثقيل. وهذا إن حدث، لا يكبح لجوء أشخاص متشوّقين لسجال آخر إلى الاستفهام عن الهدوء الحذر المخيّم على فضاء "فيسبوك" أو "تويتر". في الواقع، بات البعض يسأل منذ أن يفتح عينيه من نومه: على ماذا تختلفون الآن؟ وذلك طلباً للمعرفة السريعة والشاملة حول القضية المطروحة، مُريحاً نفسه من عناء عملية تصفّح الكم الهائل من الشتائم والسخرية و... - آه عفواً - الكمّ الهائل من "الآراء".
قلّما نجد تواصلاً يقوم على نقاش بنّاء في هذا الفضاء الرقمي المشتعل بين الأطراف المتخاصمة. غالباً ما يتّخذ فعل التخاطب منحىً سلبياً، يفتقر إلى الحجج التي تساعد في توضيح التباينات ونقاط الاختلاف. من هنا، كان استخدامُنا لكلمة "جدال" لتوصيف هذا النوع من الخطاب التفاعلي، دون غيره من المصطلحات كالحوار أو النقاش. نقصد بالجدال، بحسب ما ورد في كتاب المنطق للشيخ محمد رضا المظفر، ذلك الخلاف الحاصل بين طرفين متخاصمين، يفتعله الطرف الأوّل لنقد وهدم الطرف الثاني وجرّه إلى الجدال في الكلام وصولاً إلى إفحامه أمام الجمهور. عادةً، يلجأ الطرف الأول الى أسلوب الجدال لعجزه عن تقديم البرهان وإلحاق العجز بخصمه وإحالته إلى الصمت.
تحوّل الجدال إلى المحرّك الأساسي لديناميكية جوّ الفضاء الرقمي. جدالاتٌ محمومة قد يفتعلها سياسيون أو صحافيون أو ناشطون، إضافة إلى أيّ شخص عادي من اللّبنانيين. وإن كان الجدالُ مألوفاً بين المُتخاصمين بشكل حادّ في الرؤى والأصول والثوابت، إلا أنه يبقى مُستغرباً بين الأطراف المُتحالفة، وحتى بين صفوف البيت الواحد! وكأنّما كُلّما تواصل النّاس أكثر، كلّما ساء فهمهم لبعضهم بعضاً أكثر، وانكشفت لهم الفروقات والاختلافات، فيتفوّهون بخطابات تعبوية تحريضية، يأخذون كلام الآخر ويطوّقونه بالاستهزاء والشتم والتهجّم. هي ديكتاتورية تظهر في خطابات كل الأطراف، لغةٌ تعصبيّة انفعالية في تنميط الآخر وإقصائه.
تكمن خطورة هذه الجدالات - المُدَعّمة أحيانًا بالأخبار الكاذبة - في أمرين اثنين: الأوّل في أنها تُشكّل مادةً معلوماتية ثمينة تُبنى عليها تحليلاتٌ ورؤى في مشاريعَ استراتيجيّة قياساً لمدى وعي الجمهور وقابليته، وإن كانت هذه الجدالات غير مفيدة لوعاء المتصفح المعرفي باعتبار أنّها ليست سوى دائرة مغلقة من آراء مُتناقضة لا تُجدي نفعاً. أما الأمر الثّاني فيكمُن في زيادة الانشقاقات عمودياً وأفقياً بين صفوف اللّبنانيين، والتي بدورها تؤثر واقعاً على مجرى الحياة السياسية في البلاد. في الآونة الأخيرة، ونظراً لحدة الجدالات المندلعة بين الأطراف الحزبية، استدعى الأمر تشكيل لجان تواصلية مهمتها التقريب بين الآراء والتوجهات وضبط "الفوضى" في الفضاء الرقمي.
سرّ الاستفزاز
يُطلق في علم تحليل الخطاب على الجدال المستمر والمتنوّع بين طرفين اثنين مصطلح "السجالية". يُعرّف المُتخصص في تحليل الخطاب Dominique Maingueneau السّجالية على "أنها خطابٌ تفاعليٌّ بين طرفين في إطار من عدم الفهم المشترك، ينطلق من فرضية أن كلّما ازداد التواصل مع الآخر كلّما ساء فهمنا له، لأن التواصل مع الآخر يقوم من خلال ترجمة وتأويل خطاب ضمن منظومتنا الخاصة بنا. في السجالية، لا تصنع هوية خطاب إلا من خلال رفضه لهوية خطاب آخر".
ما قبل ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، كان الجمهور يُشاهد السّجالية في برامج الحوار السياسي القائمة على فكرة يُلخّصها الباحث المتخصص في علوم الإعلام والاتصال Le Jacque Le Bohec في قاموس الصحافة بـ" أنها خلافٌ علنيٌّ بين (سياسيَّيْن) متخاصمين يُحبّ عددٌ من الصّحافيين تأجيجه، لا سيما افتعاله لأنه مشهديٌّ وهذا ما يُساهم في البيع حتى ولو كان الثّمن تبسيطا مُسيئا للمشاكل والقضايا. هو وسيلة تخدم إعلام السوق". وهنا يتضح لنا سبب تسمية تلك البرامج بـ"talk show" لأنها برامج "إخراج الكلمة" بشكل مشهدي استعراضي.
جاءَنا الصّحافيون والسّياسيون بذهنية "السّجالية الإعلامية" إلى مواقع التواصل، وعزّزوا حُضورهم عبر اتّباع منطق "الجملة القصيرة" الاستفزازية - المباشرة - والرمزية. أستحضر هنا التّوصيف الشامل والدقيق للباحث في معهد بحوث اللغة والفنون في فرنسا Christian Salmon لتحديد معالم خطاب أمثال هؤلاء الساسة والصحافيين وكيفية تحوّل الحياة السياسية على أيديهم: "خطاب يسودُه العنف الكلامي والحقد، ويحكمه منطق المزايدات على حساب المصداقية". ويضيف سامون "أن الحياة في المجال السياسي لم تعد كما السابق منتظمة في خطابات وبرامج ونشرات أخبار، إنما باتت فجائية، غير متوقعة، تلجأ الى علم الزلازل لا إلى فن السرد القصصي، تهدف الى إثارة الهلع بدلا من توليد التشويق".
وطغيان هذا النوع من الخطاب عالمياً، دفع بالباحث الى إطلاق سمة "الصّدام Clash" على عصرنا هذا!
اذاً هي صيغ متعددة لاسترايتيجية تسمى "الصّدام" يلجأ اليها الصحافيون والسياسيون وكذلك عامّة النّاس بشكل عشوائي لضمان تحقيق صدىً ممتاز يُثبت وجودَهم على قاعدة "أنا أستفزّ الآخر إذاً أنا موجود".
إن كان الاستفزاز بات لدى البعض ركناً أساسياً لإثبات حضورهم، فإن الآخرَ المُعارضَ لهم هو الرّكن الأهمّ لتعزيز حضورهم! فعلاً، يا لها من حقيقة بشعة أن تُساهم بسجالك مع خصمك في تعزيز حضوره، من خلال التفاعل معه بخطاب لن يراه إلا أداة لاستدراجك لتدميرك وتجريدك من صفاتك الحسنة، فيقذف في وجهك جملًا قصيرة مكثّفة تحيلك بعدها الى "الصمت العاجز".
ما السبيلُ إذاً؟ الحلّ بـ"الغضب الصامت". لو عَلِمَ المُعارضون اذاً ما واجهوا المُجادل صاحب منطق "الجملة القصيرة" باستراتيجية "التجاهل" لاستطاعوا بغضبهم الصامت أن يحطّموا وَهْم قدرته القائمة على الاستعراض والاستفزاز واقصاء الآخر وتشويهه. ماذا نعني بالتجاهل عمليّا؟ التّجاهل يكون بعدم التعليق عليه أو حتى إعادة نشر كلامه إمّا للاستهزاء أو للشتم. فما فائدة الجدال مع شخص غاية سعيه نقد الاخر وهدمه وإفحامه أمام الجمهور؟
وبناءً عليه، لا سبيلَ للنّقاش البنّاء في هذا الفضاء الرقمي المشتعل مع الخصم الواضح والعلني في الأصول والثوابت والبديهيات بذهنية التعالي والإقصاء. هو صراع نماذج، وصراع أفكار وإيديولوجيات غير محصور في لبنان، إنما له امتدادات في العالم أجمع، يتمظهر عسكرياً في ساحات الميدان، ويتمسرح إعلاميا في القنوات الإعلامية وأبواق الصحافيين. لكل نموذج رؤيته وثوابته واستراتيجياته وخططه الواضحة تستميل اليه من يقتنع به ويؤمن به. لِيَسْعَ كلّ طرف لتقديم نموذجه بمعزل عن التفاعل مع "جدليات" الخصوم، وبمشاركة عقلانية وحوار أخلاقي مع الأطراف الأخرى لتحقيق الأهداف السّامية التي تعود بالمنفعة على الجميع، وليُترك ميدانُ الواقع الفرصةَ للسياسيين المتخاصمين للتوافق حقناً للدّماء.
لا شكّ بأنّ للصورة سحراً يتسلّل في العقل والقلب خاصةً اذا ما استعانت بـ "سُلطة" الخطاب بكلماته المنمّقة وشعاراته الرنّانّة، إلاّ أن الصورة تبقى صورةً قابلةً للنّسيان وللحرق إن لم تعزّز وجودها بالفعل الحقيقي في أرض الميدان، حيث يكونُ المستفيد الأول هو "الإنسان" كما عرّفَه لنا ربُّ الإنسان.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024
ضاحية السيد: مدينة تسكننا!
16/11/2024
الانهزاميون ينتشون بفائض الحرب والتدمير
15/11/2024