معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

عنفوان التوجه شرقاً وزمن تغيير الخرائط
09/07/2020

عنفوان التوجه شرقاً وزمن تغيير الخرائط

ايهاب زكي

حين تكون عينك على الواقع، يجب أن يكون فؤادك في الماضي وعقلك في المستقبل، حيث أنّ التجربة هي سيدة المعارف، وحين يلامس واقعك تجربة الماضي، يجب أن تكون نبراساً لا أداة نسخ، لأنّ اليقظة وحدها تجعل من أخطاء الماضي فرص المستقبل. وهذا ما يحدث بحذافيره الآن، فحين أتابع الأمين العام لحزب الله السيد نصرالله يتهيأ الماضي بعنفوانه، ويتمثل تجربةً مكتملةً بلا ثغرات، فالدعوة للتوجه شرقاً ذات ماضٍ، غيّرت من قواعد اللعبة الدولية، وغيرت خرائط الصراع، وأنتجت عالماً جديداً لا يشبه ما قبله، وكان ذلك عام 1955، حين أعلن الرئيس جمال عبد الناصر عن صفقة الأسلحة التشيكية، فمنطقة الشرق الأوسط كانت منطقة نفوذ غربي مغلقة، لا يُسمح للاتحاد السوفييتي بولوجها على الإطلاق، حتى أنّ السوفييت لم يرغبوا أن يكونوا في الصورة بشكل مباشر، لذلك كانت تشيكو سلوفاكيا هي الواجهة والسلاح سوفييتي، وقالت الـ"نيورك تايمز" في حينها، أنّ وزير الخارجية الأمريكي جون فاستر دالاس، أُصيب بنوبة غضبٍ هستيرية حين سمع بأنباء الصفقة، وقال في شهادته أمام الكونغرس" كنا نظن عبد الناصر حين أعلن نيته التوجه شرقاً، أنّه كان يناور للضغط، ولم يكن جاداً".

كان تسليح الجيش المصري قبل ثورة يوليو 52 تسليحاً بريطانياً، وهي أسلحة بائدة الفعالية ضئيلة الكمية، وقد استمرت حكومة الثورة بالإلحاح بطلب شراء الأسلحة من الدول الغربية دون طائل، وقد اشترطت الولايات المتحدة وبريطانيا في سبيل الموافقة على طلبات السلاح، أن تعترف مصر بـ"إسرائيل"، كما يشترطون اليوم على لبنان سرقة غازه ونفطه ومياهه لصالح "إسرائيل". وهذه الدائرة المفرغة منذ ستة عقود وزيادة هي ذاتها اليوم، فمحور العقوبات الأمريكية على لبنان وسوريا وإيران هو "إسرائيل". وكان في وقتها اتفاق دوليّ يسمى التصريح الثلاثي، حيث التزمت أمريكا وبريطانيا وفرنسا بعدم توريد الأسلحة لمنطقة الشرق الأوسط، بحجة أنّها منطقة نزاعات، والسلاح يزيدها استعاراً، فإنسانيتهم الطافحة جعلتهم يمنعون السلاح عن المتحاربين، وهذا ما ألزمت به كل دول الغربية المصنعة للسلاح، وقد طبقته بحذافيره على الدول العربية، بينما كان السلاح يتدفق نحو"إسرائيل" دون توقف. وقبل الصفقة، يقول صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة "كان لدى الجيش المصري ست طائرات فقط قادرة على الطيران، والبقية بحاجة إلى صيانة وقطع غيار ترفض بريطانيا تزويدنا بها، ولم يكن من ذخيرة الدبابات إلّأ ما يكفي لمعركةٍ مدتها ساعة واحدة لا غير، أما المدفعية فكان يرثى لها"، والملفت في صفقة الأسلحة التشيكية، أنّها كانت صفقة مقايضة، الأسلحة مقابل القطن والأرز المصري.

إذاً، ما يطرحه السيد نصرالله هو عين الواقعية، وهي واقعيةٌ حد أنّها تقفز عن الحقائق المهلهلة، التي يريد لها البعض أن تكون صلبة، فالعجز عن مواجهة أمريكا وإيلامها ليس حقيقة صلبة، والعجز عن رفع سيف الدولرة ورفض قيصر ليس حقيقة صلبة، فحين دخل وزير الخارجية الأمريكي دالاس في نوبة غضبٍ هستيرية، كانت امبراطوريته في قمة جبروتها، وكانت صفقة الأسلحة التشيكية قد أصبحت واقعاً، أمّا حين أدخل السيد نصرالله مايك بومبيو وسفيرته في لوثة تصريحاتٍ عبثية وعصبية، لم تكن بعد "صفقة" التوجه شرقاً قد انجزت بكاملها، وأمريكا اليوم ليست على قمة جبروتها بل على حافة المنحدر. وإذا كانت تداعيات قرار الزعيم عبد الناصر بالتوجه شرقاً قد قلبت الموازين الدولية في حينه، فإنّ قرار لبنان بالتوجه شرقاً سيكون له من التداعيات الأشد أثراً على السياسات الدولية والتوازنات الدولية وخرائط المنطقة، خصوصاً أنّ لبنان اليوم هو درة تاج محورٍ يستبسل في مواجهة القبضة الأمريكية، ولديه من المقومات ما كان يتعذر على مصر حيازتها.

في لبنان اليوم سلاح فائق التكنولوجيا كما يقول العدو، ولديه 150 ألف صاروخ حسب عدادا العدو أيضاً، كما أنّ لديه مصادر تسليحية لا تنضب، وهو ما يشكل حاجز ردعٍ يعجز العدو حتى اللحظة عن تجاوزه، ولديه من الإعداد والتجربة القتالية، ما يشكل هاجساً تهديدياً استراتيجياً كما يعترف بذلك، كما أنّ موازين القوى في المنطقة تميل يوماً بعد يوم بل ساعة بعد ساعة، لصالح محور المقاومة، وهذا ما لا تملك أمريكا و"إسرائيل" له حلاً سوى عقد حبال المشانق الاقتصادية، حيث العجز البيّن عن الحلول العسكرية، وعليه فإنّ الإفلات من مشانق الاقتصاد عبر التوجه شرقاً، سيجعل من الولايات المتحدة و"إسرائيل" ذئابًا بلا أنياب، ولن يكون أمامهم حينها سوى التفكير باستخدام سلاح العجز، وهو القوة العسكرية، أو الاستمرار في خيار اصطناع الفتن وافتعال الشروخ عبر التحريض داخل لبنان، وهو الخيار الذي طلب منهم السيد نصرالله التفكر علمياً به وبشكلٍ جيد، حيث سيصبح لبنان كله مقاومة. والخيار الثالث والأخير هو محاولة تدارك التداعيات بأقل الخسائر الممكنة، عبر عقلانيةٍ دبلوماسية لا أظنّ أنّ إدارة ترامب تملكها، من خلال تخفيف الضغط على الأدوات وعدم الإصرار على حشر لبنان عبرهم في زاوية ضيقة.

 وأخيراً فقد كنت كتبتُ قديماً، إذا كان التضييق على لبنان هدفه حماية "إسرائيل"، فلو وقع المستحيل وأصبح لبنان ألف دولة، وشكّلَ كل ثلاثة مسلحين جمهورية مستقلة، فإنّ خطر حزب الله على "إسرائيل" سيبقى بل سيتصاعد، وكما قال سيد التحديات، سنزداد عدةً وعديداً.

 

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف