نقاط على الحروف
الاستثمار في الألم
ليلى زغيب
هل تذكرون أحمد، الشّاب "العادي" الذي يعيش حياة بسيطة حقيقيّة بعيدة عن أضواء الحياة الافتراضية؟ لمن لا يعلم أحمد، هو شخصية كاريكاتورية قدّمها فريق صفحة "طحالب" على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي في فيديو* يسلّط الضّوء على نموذج من النّاس الذي لم يخضع لنمط الحياة الاستهلاكية الفاخرة، والقائمة على الاستعراض ولفت النّظر. حقّق الفيديو انتشارا واسعاً على مواقع التّواصل الاجتماعي. والمفارقة أنّ الشباب "غير العادي"، المُولعين بمواقع التواصل الاجتماعي وقضايا الـtrending (المُتداولة على نطاق واسع)، أعادوا نشر الفيديو على حساباتهم الخاصة! لماذا؟ ببساطة، لأنّ الفيديو حقّق انتشاراً واسعاً، فيجب أن ينضمّوا لهذه المجموعة المتفاعلة، كي لا يشعروا بأنهم "خارج السرب". والجدير ذكره، أنّ ذلك مضى عليه ما يُقارب الثّلاثة أشهر. عادي! يُمكننا فتح النّقاش حول محتوى نُشر في زمن ليس ببعيد، المُهمّ هو في استخلاص العِبر والمغزى.
في الآونة الأخيرة، شهدنا يوميّاً حوادث فردية أليمة، معزّزة بالصّور والفيديوهات الصّادمة، تحوّلت سريعاً إلى قضية رأي عام على مواقع التواصل الاجتماعي. تخيّلتُ كيف يمكن لأحمد أن يتصرّف على هذه المنصّات الرقمية، استحضرْتُ صوت المعلّق المصري على الفيديو، فجاءني التخيّل التالي باللّهجة المصريّة: "يمتلك أحمد حسابًا على "فايسبوك" و"تويتر"، بس ما بيعطيش رأيه في كل القضايا. أحمد إنسان حقيقي، بينوجع لما يشوف طفل متعرض للاغتصاب، بينتزع مزاجو طول اليوم. واذا قدر يعبّر بكلمات بيكتب تعليقه، واذا عجز عن التعبير بيسكت، ما بينسخش (copy paste) إحساس غيره على صفحته. وفي اليوم التالي، اذا عرف بانسان انتحر، بزيد همّو وما بعلّقش، لأن حادثتين ورا بعض على إنسان متل أحمد، بتخلّيه يتألّم على الهدا، يتأمّل، يفكّر بالمُمكن يعمله!".
لماذا هذا المقال؟
سنُحاول من خلال هذا المقال أن نُشير إلى مسألة تفاعل الجمهور مع الأحداث الإنسانية الأليمة وكيفيّة تحويلها إلى قضية رأي عام، يستثمرها الجمهور خدمةً لأجندته الخاصة به. لا ندعو القارئ من خلال هذه الكلمات إلى التوقّف عن التّفاعل مع القضايا الأليمة، رُبّما هذا ما تبقّى لهم للإدلاء بشهادة الموت وصبّ نار الغضب - بهدوء- على عالم ينهار أمام أنطارهم أخلاقياً واجتماعياً وسياسياً واقتصاديا؛ إنما هي دعوة لمراجعة إنسانيتنا وتقييمها من خلال طرح التساؤلات التالية:
-
-
-
-
-
-
الآن، بدأ المقال!
o الجمهور: محكوم وحاكم برأيه
هل سألت ماذا تعني خوارزميات؟ سريعاً، الخوارزميات هي برمجيات تُستخدم لحلّ مشكلات معينّة في الحاسوب، وتعمل على تحليل المُعطيات. لأُسهّل عليك فهم وظيفتها، طُوّرت الخوارزميات في مواقع التواصل الاجتماعي لحذف المحتوى المُخالف لسياسات "فايسبوك" أو "تويتر". وتقترح عليك إقامة علاقة صداقة مع الأشخاص المُناسبين لك، وترسل لك تذكيراً لمعايدة صديقك. هي تعلم عنك كل شيء من خلال تحليل آثارك الرقمية التي تتركها عند ضغط "لايك" إعجاب، والتردّد على صفحة معيّنة، وقادرة على معرفة أسماء الأشخاص الظاهرة عندك في الصورة!
لذلك لا تلومَنّ أحداً من أقاربك إن لم يتفاعل معك، فالسّبب يكمن في الخوارزميات التي حلّلت آثاركما الرّقمية واكتشفت غياب النقاط المشتركة بينكما، فاتّخذت الخوارزميات القرار: إخفاءك أمام ناظريه!
لنُكمل. يأتي دور الخوارزميّات لتحدّد لك ما تريد رؤيته على صفحتك وفق عاملين اثنين: العامل الأوّل مرتبط باهتماماتك وتفضيلاتك، والعامل الثاني يتعلّق بقدرة "الغريب"، الطارئ على صفحتك، بالتسلّل نحو دائرتك الخاصة متسلّحًا بنسبة التفاعل الكبيرة المُحقّقة على أيدي الجمهور والتي غالباً ما تكون وهمية غير حقيقية. وكما أنّ الخوارزميات قادرة على التحكّم في ما تريد رؤيته على صفحتك فهي باستطاعتها أن تُخفي عنك قضايا أو معلومات قد تؤثر في رأيك المؤقّت حول قضية استراتيجية تستوجب تشكيل نمط ذهني مُحدّد. هنا نتحدّث عن المصالح المتشابكة بين إدارة "فايسبوك" والقادة السياسيين ورجال الاعمال في هندسة الجماهير وصولاً لتوجيه آرائهم نحو خيار محدّد. هذا باختصار شديد ومكثّف المشهد العام لبعض من سياسات التحكّم بآراء جمهور مواقع التواصل الاجتماعي.
المشهد ليس سوداويًّا إلى هذا الحدّ، إن لجمهور مواقع التواصل أيضاً قوّة متعاظمة في هذا الفضاء، لا يمكن لأحد إنكارها. يُشكّل الجمهور محوراً أساسياً في صناعة الحدث أحياناً، وأحياناً أخرى يعمل على تسليط الضوء على بعض الأحداث وتحويلها إلى قضية رأي عام، وتوظيفها خدمةً لأجندته الخاصّة به. نعم، للجمهور أجندةٌ خاصة به! ماذا نقصد في ذلك؟
o للتفاعل مع الألم شروط
يُرعبنا الواقع الحقيقي بكثرة الأحداث المأساوية. نُسارع إلى عالمنا الافتراضي، نوزّع الوجوه الغاضبة أحيانا والباكية أحيانا أخرى على تعليقات توثّق الألم. تُصيبُنا عدوى التأثّر (contagion بحسب أدبيات المفكّر غوستاف لو بون) على الحدث بعد تصفّح الكمّ الهائل من الآراء والتعليقات. نكتب سريعاً تعليقنا الخاص بنا قبل فوات "الساعة التفاعلية"، ربما قبل فتور ألمنا بالحادثة. نكتب تعليقنا الخاص، اذا تعسّر معنا التعبير، لا مشكلة في نسخ إحساس الشخص الآخر أو استلهام فكرة الاحساس منه! أنهينا كتابة النص، حان وقت الإخراج الفني: نفكّر في الصورة الأكثر تأثيرا أو الفيديو الأوضح للعيان على ألم الضحية لإرفاق تعليقنا لكي يُقرأ. هكذا تعلّمنا على مواقع التواصل الاجتماعي أنّ التّعليق دون مؤثر بصري لا يُقرأ. ربما هذه قاعدة تُخفي حقيقة مشاعرنا التي لم تعد تهتزّ بالكلمة وحدها، إنما نريد واقعاً معزّزًا (augmented reality) بالألم!
التاريخ |
ماذا حدث؟ |
كيف قدّم الحدث؟ |
مستوى التفاعل
|
|
العالم الافتراضي |
العالم الواقعي |
|||
6.6.2020 |
مقتل امرأة وسقوط طفلها من يدها في طلق ناري خلال اشتباكات بين تجار مخدّرات في مخيم شاتيلا |
فيديو |
تفاعل كبير |
لا تفاعل |
29.6.2020 |
طفل يتعرّض لعملية اغتصاب جماعي على أيدي 8 أشخاص |
فيديو |
تفاعل كبير |
لا تفاعل |
3.7.2020 |
مواطن ينتحر في شارع الحمرا، تاركا ورقة مكتوب عليها "أنا مش كافر" |
صورة (جثة الضحية + ورقة مكتوب عليها "أنا مش كافر" ) + رمزية المكان: مكان مكتظ بالناس. |
تفاعل كبير جدا |
تفاعل بسيط جدا مقارنة بحجم التفاعل على مواقع التواصل |
3.7.2020 [بعد حادثة الانتحار الأولى] |
العثور على جثة مواطن، يعمل سائقا لحافلة ركاب، مشنوقا داخل شقته في منطقة الشوف. |
لا يوجد |
لا تفاعل |
تفاعل من قبل أصدقاء المهنة لم يلقَ اي صدى |
4.7.2020 |
مواطن متقدم في العمر جثة هامدة في منزله الكائن بمنطقة حوش صور بجانبه مسدس حربي |
لا يوجد |
لا تفاعل |
لا تفاعل |
أعتقد أنّك من بعد اطلاعك على الجدول قد وصلت إلى الخلاصة التالية: إن لم يكن هناك حدث معزز بالصورة والفيديو يوثق الألم، لن نتأثر، ولن نتفاعل. واذا توفّرت عوامل التأثير، فتفاعلنا قد يكون سلبياً، بمعنى أنه محصور ضمن دائرة الفضاء الرقمي. نحن في زمن القول لا العمل.
هكذا نعيش عالمنا الافتراضي، نتألم قليلا لحادثة معيّنة، لننتقل في اليوم التالي إلى الحادثة الأُخرى. ولكن سؤال، هل نتألّم جميعاً على الألم ذاته؟
لا، حتى هذا الشعور الإنساني الخالص خضع في ميدان مواقع التواصل، كما في المؤسسات الإعلامية والمنظمات الحقوقية سواء المحلية منها أو الدولية، إلى رؤية حاكمة بأمرين اثنين:
- انتقاء الحدث المؤلم
- توظيف الحدث للتصويب على الآخر
وهنا، أضع بين أيديكم بياناً لعائلة الفقيد علي الهق، الذي انتحر في شارع الحمرا، تاركاً ورقةً مكتوباً عليها "أنا مش كافر" في تاريخ 3/7/2020 . هذا البيان يشكل نموذجاً للحدث المؤلم الذي يتحوّل إلى قضية يستثمر فيها البعض خدمة لأجندته الخاصة. لا شكّ أن كثيرين علموا بقضية انتحار علي الهق، إلا أنه قلّما من علم بالبيان الصادر عن العائلة.
في الختام...
من المخيف جدا أن تصبح مشاعرنا رهن الساعة التفاعلية المحدودة في هاشتاغ محدد، ومن المخيف أيضاً أن لا نتأثر بقصة ضحية لا نملك لها صورة ولا حتى فيديو، من المرعب أن نعتاد على قصص الضحايا ونحوّلها إلى أداة للاستثمار في دعم أجندتنا الخاصة بنا.
* فيديو "أحمد العادي"، الحلقة التاسعة من برنامج "طحالب": https://www.youtube.com/watch?v=oduat7XyrL4
مواقع التواصل الاجتماعيالإعلام والاتصالوسومتويترفايسبوكميدياوسائل الإعلامتراند
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024
ضاحية السيد: مدينة تسكننا!
16/11/2024
الانهزاميون ينتشون بفائض الحرب والتدمير
15/11/2024