معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

تساؤلات مشروعة على هامش
20/07/2020

تساؤلات مشروعة على هامش "الحياد"

ايهاب زكي

حين نستمع في منطقتنا هذه إلى لفظ الحياد، تقفز سويسرا إلى الذهن مباشرة، وهذا يعود إلى راسخ ذهني باعتبارها المثال الأقرب للمعرفة العامة، وباعتبار العقل الجمعي لم يختبر سوى الحياد السياسي، رغم أنّ الحياد أنواع متعددة وتكاد تشمل جميع مناحي الحياة. فهناك على سبيل المثال ما يُعرف قانونياً بمبدأ الحياد الوظيفي، حيث يتم فصل الإدارة العامة (الوظيفة العامة) عن السياسة. في لبنان مثلاً هل يُقبل الحياد الوظيفي، بفصل الوظيفة العامة عن السياسة والطائفة لصالح معايير الكفاءة، خصوصاً من ذات الأطراف الداعية للحياد السياسي؟ فلبنان بحاجة ماسّة لتطبيق مبدأ الحياد الوظيفي، حيث يشمل هذا المبدأ تجريد القوة التنفيذية للدولة-الإدارة العامة- من الطابع السياسي، والحكومة تقرر والإدارة تنفذ، وبما أنّ هذا المبدأ غير معمول به في لبنان، فإنّ قرارات الحكومة لا تُعتمد بسهولة، وفيما لو قررت يصبح التنفيذ عسيراً في ظل إدارة مسيسة، لذلك سيكون تطبيق الحياد الوظيفي لبنةً أساسية في استعادة لبنان لوجهه "التناغمي التعايشي".

أمّا عن الحياد السياسي ومثاله سويسرا، فرغم أنّ هذا المثال من الطبيعي أن يقفز للذهن مباشرة في عالمنا، إلّا أنّه يقفز بشكلٍ مشوه، حيث إنّه يفتقر لتاريخ الحياد السويسري وطبيعته، حيث تعتقد الغالبية أنّ سويسرا دولةٌ بلا قوة، وأنّ قوتها في ضعفها، مع أنّ الحقيقة هي العكس تماماً. حياد سويسرا في الحرب العالمية الثانية مثلاً، لم يمنع هتلر من محاولة غزوها، لولا تراجعه تحت خشية المعركة وخسائرها، بعد أن حشدت سويسرا أكثر من 85 ألف جندي على حدودها، كما أنّ حيادها لم يمنعها من اعتقال طياري الحلفاء الذين كانوا يخترقون أجواءها على اعتبار أنّها أجواء محايدة، وبعد أن حذرت سويسرا الحلفاء ودول المحور من انتهاك أجوائها بأنها ستجبر الطائرات على الهبوط واعتقال طواقمها، وأنّها لن تتسامح مطلقاً مع انتهاك أجوائها، نفذت ذلك التهديد بالفعل، وظل أولئك الطيارون في المعتقلات السويسرية رغم كل الضغط السياسي لإطلاق سراحهم، وتم الإفراج عنهم بعد انتهاء الحرب، بعد مساعٍ دبلوماسية بين دول الحلفاء وسويسرا، وحتى اليوم فإنّ سويسرا دولة مسلحة وقادرة على الدفاع عن نفسها، رغم استبعاد وجود أعداء محتملين، لكن هذا لا يعني على الإطلاق التخلي عن مصادر القوة.

فهل مفهوم الحياد المتداول في لبنان، يشمل قدرة لبنان السياسية والعسكرية على إسقاط الطائرات "الإسرائيلية" التي تنتهك أجواءه واعتقال طواقمها؟ وهل يشمل الحياد الطلب بانسحاب قوات"اليونيفيل" ونشر الجيش اللبناني لنظام دفاع جوي حديث على الحدود اللبنانية - الفلسطينية؟ وهل يضمن حياده قدرته على شراء أسلحة من أين شاء ومتى شاء؟ وهل يضمن حياد لبنان قراره بتدمير أي بوارج "إسرائيلية" تقترب من ثرواته وشواطئه؟ وهل حياده يضمن قدرته على التنقيب في مياهه، دون الالتفات إلى الرغبة الأمريكية والسارق "الإسرائيلي"؟ وهل يضمن حياده انسحابًا "إسرائيليًا" من أراضيه المحتلة؟ وهل يضمن حياده عدم الالتزامات بقانون "قيصر"، أو أي عقوبات أمريكية أو أوروبية على سوريا أو إيران؟ وهل يضمن حياده سيادة على قراره ومصارفه وسياسته المالية؟

والحقيقة أنّ الأطراف الإقليمية والدولية التي تدعو لبنان للحياد لا تقبل منه حياداً، فالولايات المتحدة في عهد جورج بوش الابن، أقرّت قاعدة "إمّا معنا أو ضدنا"، وقد ترسخت هذه القاعدة بشدة في عهد دونالد ترامب. فهل تقبل الولايات المتحدة حياداً لبنانياً بينها وبين إيران، وبالتالي بين "إسرائيل" وإيران"؟ أو هل تقبل حياداً بين مأساة النزوح السورية وشلّ قدرة لبنان على التواصل مع الحكومة السورية لإنهاء المأساة؟ وما هو الشكل الذي سترتضيه من حياد لبنان في التعامل مع نكبة اللجوء الفلسطيني؟

كذلك دول الخليج وعلى رأسها السعودية لا تقبل من لبنان حياداً بينها وبين إيران، ولا حياداً بينها وبين سوريا، ولا حياداً بينها وبين اليمن، حتى أنّها لا تقبل حياداً بين"إسرائيل" وإيران، وبالنسبة للأطراف المحلية من جميع الطوائف والمذاهب والمشارب السياسية، هل يقبلون حياداً بين "الأشقاء العرب" و"الجيران الفرس"؟ هل سيصمتون حياداً عن الوجود الإيراني في سوريا الى جانب الدولة، ويصمتون بالمقابل حياداً عن الحرب السعودية على اليمن؟ هل سيصمتون حين تتعرض السعودية لقصف يمني، كما يصمتون حين تقصف النار السعودية في اليمن؟ هل يضمن الحياد بناء علاقات جوار طبيعية مع الدولة السورية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وعدم توجيه أي نقد رسمي أو حزبي للحكومة السورية؟

إنّ الحياد كما تعرفه السياسة ليس مجرد كلمة، فالحياد يتطلب قدرة متمكنة على حمايته. وعلى افتراض أنّ الحياد حق، فالحق الذي لا تحميه القوة باطل. ولبنان الحالي لا يمتلك مقومات الحياد السياسية والعسكرية والاقتصادية ولا حتى النفسية، وبمناسبة الاستعداد النفسي، فإنّ سويسرا حين قررت نخبتها السياسية الانضمام للأمم المتحدة عام 1986، وجاءت نتيجة الاستفتاء بالرفض، وتحت وطأة قاعدة "إما معنا أو ضدنا" الأمريكية، أعادت الاستفتاء عام 2002، وجاءت النتائج بالموافقة، فهل يقبل الحياديون استفتاءً لبنانياً، والواقع الجيوسياسي يقول إنّ لبنان في عين العاصفة، والحياد وأنت في عين العاصفة يعني التخلي عن أشرعتك؟

 

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

خبر عاجل