معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

أسرار التحرير الثاني.. المُدُن لنا والمستعمرات!
16/10/2020

أسرار التحرير الثاني.. المُدُن لنا والمستعمرات!

محمد زكريا عبّاس

لم تكن معركة مدينة القصير السورية المعركة الوحيدة التي خاضها مقاتلو حزب الله على مستوى حرب المدن. لقد سبق للمقاومة أن خاضت قتال المدن خلال حرب تموز 2006، ولكن على الصعيد الدفاعي كما حصل في بلدة عيتا الشعب ومدينة بنت جبيل، حيث نفذت قتالًا صلبًا وثابتًا، منعت فيه جيش العدو الإسرائيلي من احتلالهما رغم الترسانة العسكرية الكبيرة التي يمتلكها.

في سوريا أيضًا، خاضت وشاركت المقاومة في معارك مدن مهمّة على المستويين الهجومي والدفاعي، حيث برعت فيهما. فلم يسجّل تقريبًا خلال الحرب على سوريا أي فشل لحزب الله بالدفاع عن مدينة ينتشر فيها بشكل كامل، أو انكسار أي هجوم له لاستعادة مدينة ما من أيدي الإرهابيين والتكفيريين. على سبيل المثال، المعركة الهجومية لتحرير مدينة الزبداني ذات التحصينات الضخمة، والمعركة الهجومية لتحرير مدينة العتيبة في الغوطة الشرقية، التي كان يقودها ميدانيًا أمراء سعوديون على تواصل مباشر بالأمير بندر بن سلطان، رئيس المخابرات السعودية السابق، حيث لم ينفع حينها استخدامهم للكلور وبعض الأسلحة المحرمة في منع تحريرها.

لكن ما ميّز معركة القصير، أنها كانت معركة تحوّل في إطار الحرب على سوريا، بالإضافة إلى أنها أولى العمليات الهجومية الواسعة في حرب المدن التي يخوضها حزب الله بشكل علني، وبأعداد كبيرة نسبة للهجومات التي خاضها، عدا عن أنها أتت في ظرف سياسي وعسكري حساس، وفي وقت كانت تميل به الكفّة لصالح أعداء محور المقاومة.

لم يبقَ أحد مؤثر في المستويين العربي والدولي، إلّا وتدخّل من أجل ثني حزب الله عن استكمال معركة القصير، وذلك بعد احرازه تقدما ملحوظا في داخلها، مُتخطّيًا شراسة القتال الذي قام به الإرهابيون والتكفيريون.
ولأهمية المعركة، كان الجواب على لسان الأمين العام لحزب الله في خطاب متلفز خلال المعركة، بأن المقاومة ستكمل المعركة غير آبهة بكل التهويلات والتهديدات من كل حدب وصوب. كما ترجمه السيد نصرالله في رسالة أبوية للمقاومين في مدينة القصير يُحيّي فيها شجاعتهم، ويشرح لهم فيها أهمية معركة القصير الاستراتيجية في إطار الصراع القائم، ويحثهم على متابعة المهمة حتى النّصر المحتّم. هذا عدا عن حضوره الميداني المباشر في محيط منطقة القصير مع قادة وضباط العملية قبل بدئها بأيام.

مفاجئٌ جدًّا حجم المعلومات والأسرار التي تكشفها المقاومة. لم نعتد هذا الأمر من قبل إلا في ظروف استثنائية جدًّا ولأسباب ضرورية، ككشف المقاومة عن بعض أسرار عملية أنصارية، وذلك في إطار دحض المزاعم التي كانت تتهم حزب الله بمراقبة واغتيال الرئيس رفيق الحريري.

لقد درجت العادة أن تقوم الجيوش أو المنظمات الأمنية بالكشف عن أسرارها وأساليب عملها بعد عشرات السنوات من تنفيذها، وذلك لأسباب أمنية عديدة، منها ما قد يتعلق بالنجاح المستقبلي لعملياتها، ومنها ما يتعلق بالنتائج السياسية المترتبة على عملية كشفها.

في أسرار التحرير الثاني، كشفت المقاومة عن الخطة الكاملة لتحرير مدينة القصير وبشكل مفصّل. وأبرز ما تم كشفه هو المحاور الهجومية التي اعتمدتها قيادة المقاومة للسيطرة على المدينة. وهذا ما يجعل منهج تفكير قادة المقاومة المَرِن والشُجاع متاحا أمام العسكريين والسياسيين، ومن يهمه الأمر!

تنتمي مدينة القصير إلى المدن ذات الدفاع المحضّر، أي إن المدافعين عنها أخذوا كامل وقتهم في عملية تحضيرها للدفاع. حفروا الأنفاق المعقّدة التي تربط الساحات والمنازل والشوارع ببعضها البعض من أجل سهولة التحرك وضرب المهاجمين من الخلف والالتفاف عليهم. عزّزوا مستوى التحصين والتدشيم من أجل رفع مستوى الحماية. أقاموا الملاجئ المحصّنة تحت الأرض لتحميهم من النيران التمهيدية والتدميرية. جهزوا مواضع الأسلحة، وخاصة مواضع القناصة باحتراف كبير. حددوا أماكن الكمائن التي تصطاد المهاجمين. كل هذا كان ينذر بمعركة قاسية مع المدافعين، الذين يحفظون شوارع المدينة عن ظهر قلب، معتقدين أنّهم سيكسرون أي هجوم ينطلق نحوهم، في معركة قد تمتد لعدة أشهر، كما حصل في "معركة الفلوجة" التي دامت 7 أشهر بين القوات الأميركية وتنظيم دولة العراق الاسلامية.

لقد أظهرت مشاهد القتال والاشتباكات حجم عنفها وضراوتها، وشدة ثبات المدافع أحيانا، واضطراره إلى الانسحاب أو تغيير موضعه من أجل تهيئة ظروف أفضل لإعادة القتال. لقد كانوا يقاتلون عن عقيدة!
إذًا إن التحضير الدفاعي الاستثنائي للإرهابيين، ونوعية المقاتلين، كانا يحتاجان إلى تعامل ذكيّ من قبل قيادة المقاومة، يعطيها القدرة على تحقيق الهدف بأقل التضحيات، وبوقت أسرع، وبمشهد نصرٍ يُؤسَس عليه للمستقبل. فكانت تلك الخطة الهجومية المحكمة، وكان مجدّدًا عامل المفاجأة من أسباب سرعة الحسم، حيث حوّلت قيادة المقاومة مدينة القصير، من مدينة محضّرة جيدا للدفاع إلى مدينة دفاعاتها أقل تحضيرا، وذلك لأن الإرهابيين كانوا يتوقعون الهجوم من جهة الشمال، فكان شمال مدينة القصير ووسطها الأكثر تحضيرا على مستوى التحصين والتدشيم وشبكات الأنفاق المتصلة ببعضها بعضا. لكن المقاومة هاجمت من الجنوب، وتركت الجهة الشمالية منفذا لهم للهروب.

هاجمت المقاومة المدينة بشكل جبهوي ومن خمسة محاور تقدم، يتفرّع من كل محور عدّة اتجاهات. شتتت جهد الإرهابيين. تقدمت على مراحل. ارتقى لها عشرات الشهداء وأصيب عشرات الجرحى، لكنها أكملت المعركة، لأن تكلفة ايقافها ستكون أكبر. والمعركة معركة إرادات.

حجم النيران الذي أطلقته كان كثيفا وغزيرا، أنهك الإرهابيين، وأثخنهم بالجراح، وزاد من عدد قتلاهم. ومع اصرار تقدم المقاومين وعدم توقفهم، انكسرت ارادة الإرهابيين والتكفيريين، رغم تفوقهم العددي على المقاومين المهاجمين، ورغم تعزيزهم بألف مقاتل من أشرس المقاتلين في دير الزور وحلب. تقريبا كان هناك 4000 مدافع مقابل 1000 مهاجم من قوات المقاومة!

لكنّ مرونة وتكيف القيادة مع مجريات المعركة، جعلتهم يضيّقون الخناق على الإرهابيين لكسر ارادتهم بالقتال، عبر القيام بعمليات فرعية تظهر نية المقاومة تطويق كامل المدينة. وهذا فعلا ما ساهم في تركهم للسلاح، والخروج هربًا من جحيم الموت إلى رحلة الموت كما سموها.

على صعيد آخر، استمرّت المقاومة في توجيه الرسائل إلى العدو الإسرائيلي. الرسائل هذه المرة كانت مباشرة على لسان بعض ضباطها، الذين توعدوا بالدخول إلى فلسطين المحتلة، وقلع الحصون الحدودية التي ينشئها العدو من أجل منعهم من ذلك، بالإضافة إلى بث مشاهد في الحلقات لمناطق الجليل من تصوير الجهاز الاستخباري في المقاومة.

المقاومة أيضا كشفت مساهمة سلاح الطائرات المسيّرة في حسم معركة القصير خلال أيامها الأخيرة، عبر توجيه نيران دقيقة لوسط المدينة. وهذا ما سوف يتوقف عنده مجددا العدو الاسرائيلي، الذي تشكل له الطائرات المسيرة هاجسا وتهديدا تكتيكيا وعملياتيا واستراتيجيا، يقيم له المناورات باستمرار من أجل منعه، وخاصة بعد نجاح حركة أنصار الله ومن خلفها ايران بتنفيد عملية دقيقة على منشآت آرامكو في السعودية حسب زعمه.
لكن المفارقة التي توقف عندها العديد من المراقبين السياسيين والعسكريين، أنه بعد مشاهد القتال العنيف وصلابة العدو الارهابي والتكفيري، واستطاعة مقاتلي المقاومة تجاوزها، وحسم الموقف لصالحهم، كيف سيكون الاشتباك القادم بين المقاتل من حزب الله، وبين الجندي الإسرائيلي الذي لا يتمتّع بخلفية ايديولوجية قوية، ولا بعقيدة قتالية صلبة؟!

كيف سيكون الاشتباك بين مقاتلين من حزب الله خاضوا بشكل مباشر وقاسٍ العديد من حروب المدن والجبال والأحراج منذ سنوات قليلة جدًّا، وبين جندي صهيوني حديث في الخدمة، لم يعرف حرب المدن والجبال إلا في المناورات؟!

من يشاهد تغطية وجوه مقاتلي حزب الله في كل الاشتباكات التي تم عرضها، يعرف جيّدًا أن أغلبهم ما زالوا من الشهداء الأحياء.. الذين ينتظرون إذن الدّخول.
أمّا تدريباتهم، فهي على أن المُدن لنا.. والمستعمرات !

التحرير الثاني

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف