نقاط على الحروف
أمريكا.. رغبة البقاء وموازين الرحيل
ايهاب زكي
كانت السعودية تدعي في سياق تبرير عدوانها على اليمن بمقولة "لا نريد حزب الله آخر على حدودنا". تتطابق اللغة والتشبيه والتبريرات والتخوفات مع ما تقوله "إسرائيل" اليوم: "لا نريد حوثيًا آخر على حدودنا" وتقصد حزب الله. وإذا قمنا بتوسيع دائرة الرؤية، سنلاحظ بلا جهدٍ التطابق في لغة كل الأدوات الأمريكية في المنطقة، مما يعني أنّ المنهل اللغوي والسياسي واحد أولًا، ويدل على تماثلية الفشل والعجز ثانيًا. فالمنهل الأمريكي أصبح شحيحًا، فيما فشل وعجز أدواته فائض عن الحاجة، والشيء الوحيد الذي استطاعت الولايات المتحدة تقديمه كانتصار، هو تظهير التحالف الذي ظل سرًا لعقودٍ طويلة بين مشيخات النفط و"إسرائيل"، فيما لو كانت القدرة الأمريكية في أوجها، لكان هذا الإعلان أفضل إخراجًا، ولكان على قاعدة الواقعية وتدارك ما يمكن إدراكه في ظل القوة "الإسرائيلية" الغاشمة، بدلًا من هرطقات "الإبراهيمية" وخزعبلات التنمية والمصالح الاقتصادية، وأفضل حتى من سيمفونية مواجهة "الخطر الإيراني". لكن العجز دفع الولايات المتحدة للبحث عن فتات إنجاز، يعزز صورة الهيمنة لديها والقدرة، ولكن ما الخطوة التالية؟ حيث إنّ الانبطاح النفطي ليس ذا صلاحيةٍ أبدية.
ما تقوم به الإدارة الأمريكية منذ وصول بايدن للبيت الأبيض، هو التبريد اللفظي مقابل بقاء الوضع على ما هو عليه ميدانيًا في أفضل الحالات، مع ملاحظة زيادة الضغوط الاقتصادية. وبما أنّ الإدارة الجديدة للديمقراطيين في البيت الأبيض، قد أقفلت عداد الرهان على ما يسمى بـ"الربيع العربي"، وهذا ما تشي به الرسالة التركية للقنوات الإخوانية في تركيا، يجب السؤال عن حصان طروادة الجديد، الذي ستحاول أمريكا استكمال أهدافها في الهيمنة من خلاله، قد يكون إعادة لمّ شمل الفاشلين أحد الخيارات، كما تحدثنا سابقًا، وهو ما رأيناه يحدث بالفعل، لكنه كذلك خيار شبه اضطراري بلا مفاعيل حقيقية، وهو يشبه خيار المستجير من الرمضاء بالنار. والسؤال الذي يجب أن يظل قائمًا، هل تعيد الولايات المتحدة ترتيب أوراقها تحضيرًا للهجوم مجددًا؟ أمّ أنّه إعادة ترتيبٍ للانسحاب بأقل الخسائر الممكنة؟ وإن كانت الإجابة هي الخيار الأول، فهذا سيؤدي للخيار الثاني ولكن بأقصى الخسائر ودون فوائدٍ تُذكر، أمّا إن كانت الإجابة هي الخيار الثاني، فإنّ إدارة بايدن تكون بدأت بالفعل في عقلنة إرث ترامب، والتخفف من إرث أوباما.
في اليمن مثلًا تبدو المبادرة الأمريكية تخييرًا بين استمرار العدوان أو الاستسلام، لكن يتم تقديمها في إطار السعي للسلام، لذلك فهي وصفة محكمة لاستمرار العدوان، وهذا الوضع في حال استمراره، سيصل إلى مرحلة عدم قدرة السعودية على الحفاظ على ماء الوجه، وهو ما يعني خسارة أمريكية لأهدافها في اليمن أولاً، وخسارة كمّ هائل من القدرة والنفوذ السعوديين في الإقليم ثانيًا، وخسارة "إسرائيل" لقواعدها وأمنها على بوابة البحر الأحمر ثالثًا. والمثال اليمني ينطبق على كل الساحات من لبنان إلى سوريا والعراق وحتى أفغانستان، وإذا أخذنا بعين الاعتبار هجوم بايدن على الرئيس الروسي ووصفه بالقاتل، وأنّه سيدفع الثمن، فإنّ العقوبات الاقتصادية التي فُسر بها الثمن الذي يقصده بايدن، قد لا تكون كل ما في جعبته، فقد يكون إبعاد روسيا عن المياه الدافئة أحد الأثمان التي قصدها بايدن، وهذا ما يؤشر إلى الساحتين السورية واللبنانية على الأقل، وطبيعة التوجه الأمريكي، فهل ستبقي على التعطيل في لبنان بهدف الوصول للفوضى والصدام؟ أم ستقف في منطقة وسطى والعمل على خلق فرصٍ جديدة للاستهداف ومن أبوابٍ غير باب التعطيل الحكومي؟ وكذلك في سوريا إن أرادت إدارة بايدن للعودة للمخطط القديم بأفغنة سوريا في وجه روسيا، أو الإبقاء على نقطة المنتصف والتعامل مع الانتخابات السورية المقبلة بعقلانية؟
هناك الكثير من المياه التي تجري في كل الساحات، وهذا قد يؤدي لانزلاقاتٍ خطرة، فالولايات المتحدة تعمل على تأزيم كل الساحات، والتأزيم منطقيًا يحتاج لانزياحاتٍ قد تكون على شكل انفجارات، وسيكون ثمن هذه التفجيرات باهظاً على الجميع، ولكن الثمن الأفدح سيكون على"إسرائيل" التكفل بدفعه من رصيد وجودها، وعلى الولايات المتحدة دفعه من رصيد نفوذها. ومن مؤشرات هذا الثمن، العجز "الإسرائيلي" عن ملء صناديق الانتخابات بالدماء العربية، فنتن ياهو المتمسك بالسلطة كقُراد الخيل بالخيل، ورغم إدراكه أنّ الدماء هي أقصر الطرق للحصول على حكومةٍ مريحة في مجتمعٍ عدوانيٍ ومتطرف، فلا يجرؤ على سفكها، خصوصاً شمالاً وحتى جنوباً، وبدلاً من ذلك اختار الوسيلة الأكثر نفاقاً وتزلفاً وتذللاً، من خلال تسوّل الأصوات العربية. وأعتقد جازماً أنّ أهم أسباب عدم قدرة أيّ مرشحٍ في "إسرائيل" على الحسم الانتخابي، على مدى أربعة انتخاباتٍ في غضون سنتين، هو عدم إقناع الناخب بقدرة أيّ مرشح على حسم الحرب شمالاً أو جنوباً، وهذا يعني قلق المصير الذي يعيشه المستوطن، وهذا القلق هو انعكاس لقلق العجز العسكري في الكيان والتردد السياسي، لذلك فإنّ على بايدن الاستماع لتمنيات بوتين له بالصحة بشكلٍ جيد، وعليه قراءتها حسب موازين الميدان لا حسب ميزان المجاملات الاجتماعية.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024