نقاط على الحروف
مأزق التوجيه الدراسي: بين قصور التلميذ وضعف النظام التعليمي
د. هاني حيدر - أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية
يحتل التوجيه الدراسي والمهني موقعًا مهمًا في النظام التربوي في الدول المتقدمة حيث يوجد في كل منطقة مركز للتوجيه يعمل على مساعدة الطلاب وأهلهم على اختيار الاختصاص الملائم ومهنة المستقبل المناسبة. فمن أهم الغايات التربوية لأي نظام تربوي هو إعداد التلميذ ليكون فردًا منتجًا ومفيدًا لنفسه ومجتمعه. لذلك فإن عملية التوجيه تعمل على حسن اختيار التلميذ للمسار الدراسي المناسب لكي يصل الى أقصى حد ممكن من الإتقان في متابعة دراسته وبالتالي في ممارسته لمهنته مستقبلًا.
وتعتمد عملية التوجيه بشكل أساسي على قدرات التلميذ وميوله التي تتضمن ما يمتلكه من مهارات علمية وعملية من ناحية وعلى رغبته في ممارسة نشاط مهني معين من ناحية ثانية. غير أن هناك عوامل أخرى يمكن أن تطرأ على هذه العملية منها ما يتعلق بسوق العمل، وإسقاط طموحات الآباء على الأبناء، وامتحانات الدخول إلى بعض الاختصاصات المهمة، وإمكانيات الأهل المادية، وجنس التلميذ، والفرع الدراسي الذي يتابعه في المرحلة الثانوية. وتلعب التصورات الاجتماعية دورًا مهمًا في إعطاء الأهمية لاختصاص جامعي على حساب آخر لا سيما من بين الاختصاصات المهمة اجتماعيًا كالطب والهندسة. كما يحق للأهل العمل على توجيه أبنائهم من أجل تأمين مستقبلهم من دون إكراه أو تأثير يتعارض مع قدرات أبنائهم وميولهم كي لا يؤدي ذلك الى إرباك التلميذ نتيجة للتعارض بين ما يرغب به من ناحية وما يرضي أهله من ناحية ثانية.
لكن المشكلة الحقيقية تكمن في قصور التلميذ نفسه وتردده في اختيار المجال المهني الذي يناسبه. وهذه المشكلة تعود إلى أن عملية التوجيه تأتي غالبًا في مرحلة متأخرة عندما يصل التلميذ الى أبواب الجامعة، ليجد أمامه هذا العدد الكبير من الاختصاصات فيقف حائرًا متأثرًا بأهله تارة وبأصدقائه تارة أخرى وبمحيطه الاجتماعي ككل في أغلب الأحيان، وذلك بسبب عدم معرفته العميقة بذاته خصوصًا في ما يتعلق بقدراته وميوله وكيفية توظيفها واستثمارها في ااختصاص الملائم.
ولما كان النظام التعليمي يعمل على تكوين ثقافة عامة لدى التلميذ من خلال إكسابه مختلف المعارف العلمية والأدبية والإنسانية في مرحلة التعليم الأساسي، فإن هذا النظام ينقسم في نهاية هذه المرحلة إلى تعليم عام وتعليم مهني، حيث يتشعب التعليم العام في المرحلة الثانوية إلى فروع علمية وأخرى أدبية تشكل الاختصاصات الجامعية امتدادًا لها. لذلك فإن هذه الفروع تفرض نفسها على عملية اختيار التلميذ للاختصاص الجامعي، ذلك أن التلميذ الذي كان يتابع فرع علوم الحياة مثلًا يتوجه إلى الاختصاصات الطبية والصحية أما ذلك الذي كان يتابع فرع الاقتصاد والاجتماع فإنه يتجه الى اختصاص إدارة الأعمال والحقوق وعلم الاجتماع وهكذا بالنسبة لبقية الفروع حيث يرتبط كل منها باختصاصات جامعية محددة.
إن عملية اختيار التلميذ لأحد هذه الفروع في المرحلة الثانوية تخضع غالبًا لمنطق الفرع الأكثر أهمية حيث يتوجه معظم التلاميذ لا سيما المتفوقون منهم إلى الفروع العلمية، مما ينعكس على اختيارهم للتخصص الجامعي الذي يشكل امتدادًا لهذا الفرع أو ذاك من فروع المرحلة الثانوية. وغالبًا ما يتحول عدد كبير من الطلاب بعد السنة الجامعية الأولى إلى اختصاصات لا ترتبط بالضرورة بالفروع الدراسية التي تابعوها في المرحلة الثانوية بعدما تأكدوا أنهم لا يتابعون الاختصاص المناسب لهم. الأمر الذي يشير إلى أن هناك خللًا في اختيار الفرع الدراسي في المرحلة الثانوية وانعكاس ذلك سلبًا على اختيار الطالب لاختصاصه الجامعي.
ومما لا شك فيه أن مراكز التوجيه المهني الخاصة في لبنان وإن كان عددها محدودًا تلعب دورًا مهمًا في مساعدة الطالب للتعرف على ذاته والعمل على فتح الأبواب المناسبة أمامه. غير أن العوامل الاجتماعية لا سيما منها الأهل والأصدقاء والفرع الدراسي وجنس التلميذ لها تأثير كبير في هذا المجال، بالإضافة إلى معدل نجاح التلميذ الذي يشكل معيارا أساسيا في عملية التوجيه الدراسي حيث يتم توجيه التلاميذ المتفوقين الى الفروع العلمية في المرحلة الثانوية بينما يذهب التلاميذ الذين لديهم نتائج متواضعة الى التعليم المهني أو إلى الفروع الأدبية ما عدا عدد قليل منهم ممن اختاروا هذه الفروع بمحض إرادتهم. إن هذه العملية تسلب التلميذ حرية الاختيار وبالتالي رغبته الشخصية التي تشكل الدافع الرئيسي في متابعة الفرع الدراسي الذي يريد.
إن هذا المأزق الذي يعيشه عدد كبير من التلاميذ في لبنان يعود بشكل أساسي إلى خلل في النظام التربوي الذي يهمل عملية التوجيه في مرحلة التعليم الأساسي معتمدًا على مناهج يغلب عليها الجانب النظري بعيدًا عن الجانب العملي التطبيقي سواء في المواد العلمية أو الأدبية وعدم ربط هذه المواد بأنشطة عملية واجتماعية ترتبط بالاختصاصات والمهن المختلفة. إن غياب التوجيه الدراسي والمهني أو ما يعرف اليوم بالتربية على التوجيه في صفوف الحلقة الثالثة من التعليم الأساسي يعتبر عائقًا أساسيًا أمام قدرة التلميذ على اختيار المسار الدراسي المناسب له في المرحلة الثانوية سواء لجهة التعليم العام بفروعه المختلفة أم لجهة التعليم المهني. فالتلميذ يحتاج إلى خبرة عملية تعمل على تنمية شخصيته الاجتماعية والمهنية وتساعده على ربط المواد الدراسية في مرحلة التعليم الأساسي بالمسارات الدراسية في المرحلة الثانوية نظرًا لارتباطها الوثيق باختياره للاختصاص الجامعي ولمهنة المستقبل.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024