نقاط على الحروف
السياسة.. وفن الطبخ
عبير بسام
لطلما تحدث الجميع عما يطهى في مطابخ السياسيين من قرارات أو مؤامرات تتعلق بالبلاد في أي مكان من العالم. ففن الطبخ في السياسة يتجاوز حدود الطعام، لأنها تستطيع تصنيف من سيأكل ومن سيبقى جائعاً. كما أن هناك أنواعا مختلفة من الطعام، فمنه الحلو والمالح والحامض والحامض ـ الحلو. وهناك طرق مختلفة من الطهو: من المقلي إلى المشوي والمدخن، ولكل حسناته وسيئاته على صحة البشر. وكذلك العديد من السياسات المتبعة في العالم، والتي تناسب في كل منها دور الدول المتدخلة في صناعة وتنفيذ القرارات. وكما أن الطعام الصحي، على سبيل المثال، يعد تحدياً بحد ذاته لمن يتبعه، فإن السياسات التي ترعى مصالح الناس وتأخذ بحاجاتهم هي تحدٍّ بحد ذاتها. وقد تكون بعض أنواع الطعام تمثل خطراً على صحة الإنسان إذا ما تناولها بكثرة: كالسكر والملح، فإن بعض السياسات قد تكون هدامة للمجتمع والدولة، ولكن في كل الأحوال فالأمر دائماً منوط بالطباخ، عفواً بالسياسي، وطرق الطبخ، "صناعة القرار"، التي يحبذ استخدامها.
لنبدأ بالمطبخ التقليدي وهو يشبه في السياسة ما يعرف بالواقعية وهي التي تعتبر أن الدولة وحدودها هي الأساس وتتخذ القرارات الهامة المتعلقة بالسياسة الداخلية أو الخارجية من قبل الدولة المركزية، وهذا ما تفعله الأم عادة في مطبخها، حينما ترفض استخدام المأكولات الجديدة أو التعديل على الوصفات التي وصلت إليها من الجدة العزيزة. وهناك المطبخ شبه التقليدي، وهو حينما تلتزم الأم بحرفية وصفات الجدة القديمة، ولكن هذا لا يمنعها من إضافة بعض المأكولات الجديدة إلى قوائم الطعام مثل: الكنتاكي، والكرسبي، وبعض الوصفات الصينية أو الهندية وغيرها، وهذا ما يشبه الواقعية الجديدة في السياسة، والتي تقبل مشاركة تدخل الشركات الكبرى ولكن بشكل محدود.
ولكن إذا ما كان هناك تدخل حتى في أصل الوصفات التقليدية لتعطيها طعمة مختلفة فهنا نستطيع فهم معنى الليبرالية السياسية. ولكن إذا ما تغيرت قائمة الطعام نهائياً وأصبحت متفلتة من أية قوانين قد تضعها الأم في مطبخها وخاضعة لقانون العرض والطلب الذي يفرضه أفراد الأسرة، فإننا حينئذ نتحدث عن الليبرالية الجديدة. والكلام نفسه ينطبق على الماركسية، والتي تعتمد في مطبخها على ما يأكله عامة الناس، وهي تركن إلى منتوجات الأرض الطبيعية كأساس لقوائم الطعام: شيء يشبه الطعام الصحي! ولكن من الصعب الاستمرار بهذا النوع من الطعام لأن ما يقدمه الآخرون شهيّ ومغرٍ، ولهذا السبب انهارت المنظومات الشيوعية. ولكن إذا ما أدخلت الماركسية بعض المنكهات واللحوم إلى قائمة الطعام فإننا نتحدث عن الماركسية الجديدة وعن الأنظمة الاشتراكية في بعض الدول الغربية.
والطبخ لا يعتمد على الوصفات فقط، كما السياسات المتبعة تماماً، فالأمر له علاقة بمطيب الطعام، ومن أين يأتي بوصفاته، ونوعية الأدوات التي يستخدمها. واذا ما كان الطعام من صنع أهل البيت، أو يُجلب الطعام من خارج المنزل "الدليفري". وهذا يشبه القرارات التي تبني عليها الدول، هل هي من صنع محلي أو تأتي من الخارج. وهل تبنى العلاقات مع الدول بناء على المصالح الداخلية للبلد أولاً، أو بناء على أطماع الشخصيات الحاكمة المرتبطة بمصالح دول عظمى، والأمر نفسه ينطبق على إقامة التحالفات. فقد يأتي القرار مثلاً بدعم المقاومة ضد اسرائيل، أو قد يأتي القرار بمحاربة المقاومة، أو قد يأتي القرار السياسي بإيصال المساعدات الى أهلها لدعمهم في أرضهم، أو لدعم المهجرين مثلاً في دولة غير دولتهم، وبناء عليه يقدر أين يطبخ القرار.
كما يعتمد الطبخ الحديث هذه الأيام على استخدام الآلات الحديثة، حيث تتم عملية التقطيع والهرس والطهو والتغليف بواسطة الآلة، ومن ثم يتم توريدها إلى البلدان المستهلكة أو المحلية. أي أنه ليس من الضروري تدخل الطاهي بشكل مباشر. يعني، شيء يشبه وجود "داعش" و"القاعدة" في سوريا والعراق ودور الدول التي تسهل وتمول دور المنظمات الإرهابية من أجل تقويض أمن واقتصاد الدول ذات القرار المستقل. أو يمكن الاستعانة بطهاة صغار من أجل تأزيم الأوضاع في الدول الآمنة، تماماً كما حدث في سوريا وما يحدث اليوم في السودان والجزائر وفنزويلا وغيرها.
وفي حالة إنشاء سلسلة من المطاعم مثل "كنتاكي" أو "ماك دونالدز"، تأتي الوصفات والبهارات جاهزة من بلاد المصدر والجميع يعلم نوعية الديمقراطية المتمثلة بمطاعم ماك دونالدز حول العالم. وإن لم تسر الأمور كما يريد صاحب السلسلة الشهيرة، فمن الممكن الاستعانة بـ" الطاهي المساعد" من الدرجة الأولى: تماماً كأن يزور فرانسوا هولاند مسؤولين لبنانيين بطريقة غير رسمية ليستعرض السياسات القادمة والطلبات الفرنسية من حلفائه في لبنان، أو الاستعانه بطاهٍ من الدرجة الأولى ليقوم بخلط المواد الأولية ليتذوق ويساهم بشكل مباشر بما أنتجه المطبخ ليقرر استحسانه أو استقباحه، شيء يشبه تماماً زيارة ديفيد ساترفيلد للوزراء اللبنانيين. وعلى عاتق النتائج والمباحثات سيتم اقرار سيدر أو لا سيدر، وإما النفط اللبناني للبنان، أو للبنان واسرائيل، وإما لا نفط في المرحلة الحالية للبنان، والحبل على الجرار. في جميع الأحوال، يعلم الجميع أهمية الطاقة التي تمنحها يدا الطاهي للطعام وبناء عليه يمكن اتخاذ القرار. ولكن ما لا يعلمه صاحب ماك دونالدز، مهما اتسع نطاق عمله، أن الكبة النية والتبولة والمجدرة ومدفونة البرغل ستبقى من أشهى أنواع الطعام في العالم.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
25/11/2024
بيانات "الإعلام الحربي": العزّة الموثّقة!
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024