معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

عن جريمة التطبيع
09/07/2022

عن جريمة التطبيع

أحمد فؤاد
"...فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" ـ حديث شريف

لا يحتاج أي متابع مهتم أو مراقب حريص إلى شواهد ودلائل جديدة حول نتائج جريمة التطبيع مع العدو الصهيوني على قضيتنا الأولى والأساسية، يكفي في هذا السياق أن أول بشائر التطبيع هو التحول في التعامل مع الوجود الصهيوني ـ كقضية مركزية للعرب والمسلمين ـ من وجود طارئ فرضته موازين قوى شديدة الظلم، إلى بقاء طبيعي بفعل المصالح الضيقة لنخبة غربية الهوى، كفرت بأوطانها وخانت مواطنيها.

وكلمة تطبيع هي الهدف الأول الذي سعت وتسعى وستسعى إليه الولايات المتحدة الاميركية والكيان، لجعل علاقات العداوة الطبيعية بين الشعوب العربية والمستوطن الصهيوني هي علاقات "طبيعية"، تارة تُشحن الجماهير لخلافات قطرية تافهة، ومرات عديدة يجري الإعلان عن اللقاءات والاجتماعات التطبيعية مع العدو دون أدنى قطرة حياء أو ذرة خجل على الوجوه.

ومن الحكومات والملوك نزولًا إلى الشارع، تبذل السياسة الصهيونية كل جهدها في تمرير التعاطي الهادئ مع الشعوب العربية، حتى لو كانت أحداث شبه ملفقة أو مصطنعة، أو تجري بدون علم من يتصادف وجوده بإنها مناسبات تطبيع، وإذاعتها بشكل يوحي بوجود التقبل والرغبة في السلام والنظر للإمام، كما تدعي وتنشر صفحات الكيان الناطقة بالعربية.

وتظل أزمة وصول التطبيع إلى الشارع في كونه يطرح نطاقًا جديدًا للتفكير والعمل، فهو ينزع عن كل مقاوم رغبة القتال وينهي إرادة الصمود والاستمرار، ويوسع مساحات التباعد بين الشعوب العربية وبين ما يجري على الأرض يوميًا وكل لحظة في فلسطين، ويترك أهلها في مواجهة العدو الأول دون الوقود المعنوي والتفاعل، بل وينفي الأمل من القلوب.

وكأي نظام عنصري وعداوني، فإن الكيان الصهيوني وصحافته ومفكريه، لا يرون في التهافت على التسليم للعدو دليلًا على الجبن والوهن، وشاهدًا لغياب الإرادة الوطنية والدينية وتآكلهما، وقبل كل شيء، قصور الأمة وقواها الحية الفاعلة عن تحمل الصراع من أجل البقاء والصراع من أجل الاستمرار.

وخلال الأيام القليلة الماضية، وتزامنًا مع الزيارة الموعودة للرئيس الأميركي إلى المنطقة، والتي يتنظرها على أحر من الجمر نظامي الحكم في الرياض والقاهرة، جاء تعامل حكومتي البلدين مع التطبيع بشكل فج، يوضح المدى الذي يمكن أن يصلا إليه في التنازل والبيع، والحصول على غطاء الشرعية الأميركي، بأي مقابل وبكل ثمن.

في مصر نشطت جمعيات ما تسمى حقوق المرأة، للدفاع عن نجمة ألعاب القوى بسنت حميدة، التي فازت بميداليتين ذهبيتين في بطولة ألعاب البحر المتوسط بالجزائر، اللاعبة لها سابقة تطبيعية، لكن المنظمات الممولة والمدارة جيدًا وبعناية استعانت بتركيز إعلامي هائل لخلط ما لا يمكن خلطه، وإدعاء أن الهجوم/الدفاع عن اللاعبة سببه ملابسها، وقيامها بالسجود بها على أرضية الملعب، بشكل ينافي القيم الإسلامية.
وبدلًا من التركيز على الجريمة التي قامت بها، فإن الجدل تحول بسرعة إلى صراع من نوع آخر، يصعب فيه الحشد والتجمع على رأي واحد بشأن تصرف شخصي بالأساس، وانصرفنا عن مناقشة خطيئة وطنية ودينية بالحديث عن معصية.

أما في الرياض، فقد ذهبت إلى أبعد الأشواط في الدفع نحو عملية تطبيع شعبية، تستبق خطوة رسمية كبرى، وحقيرة، يبدو محمد بن سلمان مستعدًا لها بل وينتظرها، ظنًا أنها طريقه المفتوح إلى صعود عرش آل سعود.

قضية تكليف المطبع محمد العيسى بإمامة مليون مسلم في واحدة في أقدس وأطهر البقع الإسلامية، وفي يوم من خير أيام الله، بحد ذاتها إشارة عن المكافآت التي تنتظر المطبعين في المملكة، إذا كنت على استعداد لمجاراة سرعة النظام السعودي نحو تل أبيب، فأمامك نموذج العيسى، ستكون وقتها محلًا للرعاية الخاصة والملكية.

وبالتأكيد فإنه منذ زرع الكيان الصهيوني السرطاني في قلب العالم العربي، وهو يستهدف كإستراتيجية عليا ومبدئية، فصل شرق العرب عن غربه، بمحاولات التطويق والعزل والإشغال، وفي اللحظات المناسبة يتدخل الراعي الأميركي لفرض ما لا يمكن قبوله على أنظمة الحكم، بالجزرة مرة وبالعصا المشهرة مرات.

ومثًا، فإنه خلال الفترة التي أعقبت معاهدة الاستسلام المصرية للكيان في 1979، انطلق الوجود الصهيوني في مصر بشكل مرعب، وخصوصًا على الصعيد الثقافي، إذ أن البلد بتراثها وثقلها التاريخي ظلت للعرب حصنًا وركنًا، وكان تدجين مثقفيها هدفًا أساسيًا للمخطط الصهيوني، إذ من الممكن أن تنقلب معادلة القوى مع مصر في أي وقت، لكن حيوية الثقافة واتصالها بالشخصية المصرية وجذبها الفطري إلى شخصيتها العربية، كانت الأولوية للصهاينة ومن أتبعهم من حكام.

وعبر إغراء المال وبريق الجوائز لكبار الكتاب والأدباء، تمت المحاولة الأولى لشراء الذمم الخربة، من نجيب محفوظ إلى توفيق الحكيم وأنيس منصور، وغيرهم كثير من الكتاب وصناع الرأي، ثم جاءت الخطوة الكبرى بإنشاء تحالف "كوبنهاغن للسلام"، الناشئ في تسعينيات القرن الماضي على يد المؤلف المسرحي علي سالم، الذي ظن أنه يستطيع تمرير نصوصه إلى الملايين كما يضحك لها المشاهدين، وضم في عضويته عددًا كبيرًا ممن يعتبرون أنفسهم ولا يعتبرهم أحد قادة الرأي والفكر، ومنهم لطفي الخولي وعبد المنعم سعيد ومراد وهبة وأسامة الغزالي حرب، ولم ينس الجيل المؤسس أهمية المال، فضموا إلى عضوية الجماعة رجل الأعمال صلاح دياب، أحد أنشط وأهم رعاة الاستثمار الأميركي والصهيوني في مصر.

لكن الحل الذي أوقف، بل ودمر، كل المحاولات التي بذلت لقبول الكيان في الشارع المصري، جاءت مع انتفاضة الأقصى المباركة عام 2000، إذ كشفت حجم الكراهية الشعبية للكيان ومن يواليه، وهكذا وإلى سلة القمامة، ذهبت جماعة كوبنهاغن ومعها جمعية تائهة قامت في أعقابها هي جمعية القاهرة للسلام.

ومن فلسطين دائمًا تأتي ملامح الخلاص العربي، إذ يكفي حجر واحد بيد طفل مقدسي لإعادة الاتزان إلى الشارع العربي، ولملمة شتات النفوس، والبدء في ترتيب الأولويات بدقة، فـسلامًا على فلسطين وأهلها يوم عرفة، وفي كل يوم.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

خبر عاجل