نقاط على الحروف
ثقافة الحضيض وأهله!
ليلى عماشا
قد يصعب على المرء جمع لفظتي الثقافة والحضيض في عبارة واحدة، فالثقافة بأدنى درجاتها تدلّ منطقيًا على ارتقاء الإنسان بعقله وبسلوكه وبأنماط عيشه بشكل تصاعديّ.
هذا الصّعب هوّنته مجموعة ممّن يقدّمون أنفسهم واجهةً ثقافيةً في لبنان، قفزوا جميعًا إلى الحضيض في حركة استعراضية محضّرة ومشبوهة في آن. لا يعني ذلك أنّهم قبل القفزة كانوا على قمّة ما ولا حتى على مرتفع من رمال متحرّكة، ولكن بدا أنّهم تفوّقوا على أنفسهم في ممارسة الانحدار الأخلاقي والقيمي، فقفزوا من مستنقعهم إلى قعر سحيق يُدعى الترويج للشذوذ.
في الواقع، ظهر على شاشات العرض حول العالم فيلم يروّج للشذوذ بشكل مباشر وغير مباشر، يضرب كلّ المفاهيم والقيم المتعلقة بالعلاقات الطبيعية بين البشر، داخل الأسرة وخارجها. وتزامن الأمر مع الهبّة الغربية لفرض الشذوذ على المجتمعات كشرط لإثبات تحضّرها. هذا التزامن ليس غريبًا إذ لطالما كانت السينما الأميركية ناطقة بالوجهة الاجتماعية والسياسية التي يخطّط الغرب لسلوكها أو لفرضها، بدءًا من الأفلام التي قدّمت نمط العيش الغربي كحلم يجب على كلّ سكان الأرض أن يُصابوا بلوثته مرورًا بتلك التي تقدّم "البطل" الأميركي ككائن لا يُقهر وصولًا إلى اليوم الذي تروّج فيه هذه السينما للشذوذ، وتقدّمه ليس فقط كحالة طبيعية، بل كحالة إلزامية يثبت المرء بتقبّلها تحضّره وإنسانيّته.
يضرب فيلم "باربي" كلّ القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية التي تشكّل أساس البنيان الثقافي في مجتمعاتنا الشرقية. ويكمن خطره في تمرير كمّ هائل من المفاهيم المشوّهة ومن الاستهدافات المباشرة لكل المنظومات السلوكية السويّة، وبناء على ذلك، من الطبيعي بل ومن المفروض أن يُمنع عرضه في أيّ مجتمع يحترم نفسه ويقدّر انسانية أفراده.
على هذا الأساس، وانطلاقًا من القوانين اللبنانية، توجّب على وزارة الثقافة في لبنان منع عرض الفيلم في الصالات اللبنانية، حرصًا على المجتمع ككلّ أولًا وحمايةً لفئة المراهقين الذين قد تتأثر سلوكياتهم ومفاهيمهم بشكل كبير عبر محتوى هدّام مدروس يتوخى أذيّة نفوسهم وعقولهم وفطرتهم. مُنع الفيلم، وثارت ثائرة مجموعة من استعراضيي الثقافة: صحافيون وكتّاب ومخرجون أجمعوا على رفض قرار وزارة الثقافة بل والتعرّض لشخص الوزير الذي اتخذ القرار. وبالطبع تماهى مع هؤلاء بعض السياسيين الذين حرصوا على اعتبار عرض الفيلم الشاذ قضيّتهم التي يريدون النضال لأجلها؛ هنا، لا بدّ من التصرّف قليلًا بالمقولة الشهيرة فتصبح "قل لي ما هي قضيّتك أقل لك من أنت!".
اتهّم عناصر مجموعة المطالبين بعرض الفيلم وزير الثقافة بأن "أفكاره قُدّت من خشب يابس". عن أي أفكار يتحدّثون؟ عن فكرة اعتباره الشذوذ الجنسي والترويج له حالات مرفوضة في لبنان. إذًا، بالنسبة لهم مجرّد فكرة رفض الشذوذ تعبّر عن تخلّف وتأخّر حضاري. هذه الفكرة لم يخترعها الوزير من بنات أفكاره، بل تكرّسها الأديان جميعها من جهة، وتنصّ عليها القوانين المرعية الإجراء في الدولة اللبنانية من جهة أخرى. وبالتالي إن ما فعله الوزير هو ببساطة تطبيق القانون وحفظ أعراف أفراد المجتمع اللبناني ومعتقداتهم الدينية على تنوّعها. اللافت في الأمر، أن النوّاب الذي تصدّروا الهجوم على الوزير وأوّلهم مارك ضو، هم من أفصح المحاضرين بضرورة العبور إلى الدولة، والدولة تجرّم الشذوذ وتمنع ترويجه وتلتزم باحترام المعتقدات الدينية. إذًا إلى أي دولة يحاول هؤلاء العبور تحت مسمّى "مثقّفين" ومتنورين!
ببساطة، هم يريدون العبور إلى دولة منبطحة بمعايير السيادة (وعلى ذلك شواهد كثيرة)، مهشّمة بمعايير الشرف الوطني (موقفهم الحاقد على المقاومة خير دليل) ودولة يسود الشذوذ في مجتمعها فيفكّك روابطها الأسرية ويحوّل سكانها إلى جمع من أفراد شاذين أو راضين بالشذوذ، مصابين بالعته ومنفصلين عن أي رابطة أسرية أو مجتمعية.
قبل سنوات قليلة، حاول البعض اعتبار "الثقافة" مدخل عبور إلى التطبيع مع العدو الصهيوني. وقد تكون حكاية فيلم المخرج اللبناني المطبّع زياد دويري خير ترجمة لتلك المحاولات الفاشلة التي أرادت أن تروّج لفكرة أن التواصل الثقافي يجب أن يعلو فوق الصراعات السياسية. ورغم فشل هذه الوجهة وأهداف العاملين على تحقيقها والسير بها، بدا أنّهم لم يتعلّموا بعد أنّ الوجهات الثقافية لا يمكن أن تتنافى مع الأخلاق، وكما عجزوا عن فهم حقيقة أنّ الصراع مع العدو هو صراع أخلاقي أولًا، يعجزون اليوم عن فهم حقيقة أن مناهضة الشذوذ ومنع الترويج له هو خيار مجتمعي لا يقيم وزنًا لفردانية الشاذين فيه والراعين لهم. ولذلك عمدوا إلى إعادة استخدام عنوان "الثقافة" كباب عبور إلى التطبيع مع الشذوذ.
الأوقح من ذلك كلّه، أن ثمّة من يسمّي الترويج للشذوذ بثقافة الحياة، ويفترض نفسه ونمطه معيارًا يقيس من خلاله أنواع ثقافات الآخرين، ويصنّفهم بحسب معاييره الغريبة تلك، والتي أضيف إليها الشذوذ مؤخّرًا بعدما كانت تنحصر بالعريّ وبتعاطي الكحول والمخدّرات وبالعلاقات خارج إطار الزواج… حسنًا، يمكن بسهولة الآن وضع الحضيض مع الثقافة في عبارة واحدة.. لتكن: ثقافة الحضيض.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024
ضاحية السيد: مدينة تسكننا!
16/11/2024
الانهزاميون ينتشون بفائض الحرب والتدمير
15/11/2024