معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

انقلاب الصورة: إنّهم يألمون..
25/01/2024

انقلاب الصورة: إنّهم يألمون..

ليلى عماشا

لا حرب من دون ألم؛ والمقدرة على احتمال الألم تُعدّ سلاحًا ولا سيّما في الحروب الطويلة والتي يهاجم فيها العدوّ المدنيين انتقامًا وتعويضًا عن عجزه في المواجهات. نحن نتألّم بلا شكّ، لكن ارتفاع مقدرتنا على التحمّل مرتبط بعدة عوامل ومنها أنّنا أصحاب حقّ وأهل الأرض ومنها أنّنا نمتلك اليقين، ومنها، أنّهم يألمون أكثر منّا، ولا يمتلكون ذرّة ممّا لدينا من اليقين.. هي معركة حقّ وباطل، واضحة، لا لبس فيها ولا مساحة تبيح موقفًا رماديًا منها.

رغم كلّ محاولات العدوّ لإخفاء خسائره وتخفيض أرقام قتلاه وجرحاه وأسراه، تبقى حقيقة أنّ ما يُسمّى بـ"المجتمع الصهيوني" يعيش في هذه الأيام حالًا من الألم المتواصل وغير المعتاد بالنسبة له. يختبر كيان الاحتلال هذا الألم على هذا المستوى من الحدّة والتواصل للمرّة الأولى منذ نشأته، وإن هو كان قد خبره متقطّعًا في المراحل السابقة، فتواصله الآن على مدى مئة وعشرة أيام يشكّل أزمة وصدمة بالنسبة لجميع أفراده.

أهالي الأسرى يألمون:

قبل طوفان الأقصى، لم نسمع يومًا عن "أهالي أسرى الصهاينة" وهم يطوفون على مكاتب "المسؤولين" ويعتصمون في الساحات العامة للمطالبة بتحرير أسراهم. وكانت عائلة أسير واحد لهم يُطاف بها في بلاد الأرض كي تعرض مظلوميتها الكاذبة ويبكي لأجلها العالم الكذّاب، فيما كانت عوائل أسرانا تنتظر عمليات المقاومة التي تسكب فيها أملًا بعملية تبادل، ثمّ تنتظر لوائح الأسماء التي قبل الصهاينة بالافراج عنها.. وكنا، ننتظر حتّى جثامين الأسرى المعتقلة في برادات كيان الاحتلال وفي ما سُمّي بمقابر الأرقام.

الآن، بحسب صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، لا يزال 136 جنديًا اسرائيليًا "رهائن لدى حماس وفصائل أخرى في غزّة"، وذلك بعد إطلاق العشرات منهم على مدار أسبوع الهدنة. وأهالي هؤلاء، بحال من الانهيار النفسي التامّ، تارّة يصرخون ويسقطون في الشوارع رعبًا على أبنائهم، وطورًا يقتحمون مكاتب الرسميين في الكيان ويكسرونها مطالبين بإعادة أبنائهم فورًا وبأي ثمن، ويقرّعون مسؤولي كيانهم وجيشه الذي ما زال عاجزًا عن تحرير أيّ أسير رغم ارتكابه لأفظع المجازر من أجل تحقيق هذا الهدف!

المستوطنون النازحون يألمون:

سواء من مستوطنات غلاف غزّة أو شمال فلسطين، نزحت أعداد هائلة من المستوطنين في تجربة هم يعيشونها للمرة الأولى وعلى هذا النطاق الواسع. ترعبهم فكرة العودة إلى وحداتهم السكنية خوفًا من هجمات المقاومة وتعبيرًا عن انعدام ثقتهم بقدرة جيشهم على حمايتّهم.. أكثر من مئتي ألف مستوطن نزح من جنوب فلسطين وشمالها باتجاه مستوطنات الوسط، على حدّ قول الصحف "الإسرائيلية"، عدا عن الذين هاجروا من كيان الاحتلال بحيث تحصي مطارات العدوّ أعدادًا متزايدة من المهاجرين الذين يحملون جوازات سفر مختلفة إلى الدول الأوروبية والأميركية.

قبل طوفان الأقصى، كان النزوح حكرًا علينا، وعشنا تجربة النزوح بشكل متكرّر على مدى السنوات بحيث يندر أن تجد فلسطينيًّا أو لبنانيًا من الجنوب ليس لديه قصّة يحكيها وتبدأ "لما تهجّرنا…". على مدى سنين طويلة، كنا ننزح بعيدًا عن العدوانية والهمجية التي اعتاد الصهاينة ممارستها ضدنا بدم بارد وكانت تتبعنا، ولم تردعها سوى المقاومة؛ لا القرارات الدولية أعادت نازحًا ولا المجتمع الدولي تكفّل بأماننا عند الحدود؛ وحدها المقاومة فعلت ذلك، وأكثر، ردّت كيد العدا إلى نحرهم، وأجبرتهم على عيش ألم النزوح..

أهل القتلى والجرحى.. أهل الجنود.. كلّ المستوطنين يألمون:

لم يعش الصهاينة قبل الآن رعبًا كهذا، وإن رأوه بشكل متقطّع و"بالمفرّق" فاليوم هم يعيشونه "بالجملة". لم ينجُ منهم واحدًا من الألم: قتلى وجرحى بأعداد هائلة لا يصرّح إلّا عن القليل منها ثمّ تتسرّب حقائقها إلى الاعلام بفعل التضارب والتناقض بين أرقام الجيش وأرقام المستشفيات وأرقام العائلات المنهارة بفعل ابلاغها بمقتل أحد افرادها. ناهيك عن عدد الجنود الرافضين للالتحاق بالجبهة، والآخرين المصابين بحالات عصبية ونفسية بسبب الرعب.

حياتهم كلّها توقّفت. يدفنون قتلاهم في الشمال سرًا وتحت ستار العتم. مصالحهم الاقتصادية تنهار تباعًا. يومياتهم ممتلئة بالألم.. الألم الذي ظنّوه قدرًا يحكم حياتنا نحن نحن، وظنوا سينجون منه مدى حياتهم.

في المقابل، نحن لا ننكر ألمنا، فالفقد جمرٌ يكوي قلوبنا، لكنّنا ولأننا أهل الحق نجيد تحويل الألم إلى طاقة قتال، ونحلّيه بالصبر، ونرفعه على كفوفنا إلى الله، جبّار القلوب.. نباهي به لأنّه دليل انتسابنا إلى معسكر الحق في المعركة.. ويفرحنا، حقًّا يفرحنا، أنّ هذا الألم ليس رخيصًا عند الله ولا عند رجاله.. ويفرحنا، يقيننا بالثأر وبالنصر وبالتحرير.. إنّهم يألمون، كما لما يألموا قبل، وهنا يبدأ زوالهم.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف