معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

المنافقون الجدد.. و"الثمن"
29/02/2024

المنافقون الجدد.. و"الثمن"

أحمد فؤاد

لا يظهر في اليوم الرابع والأربعين بعد المئة من "طوفان الأقصى" موقف يجب الإشارة إليه والوقوف طويلًا عنده فحصًا وتأملًا، سوى موقف مصر، الدولة العربية الكبيرة –سابقًا - والتي أرادت أن تقوم بفعل ما، فقررت أن تمثّل، واختارت تقليد الدور الأردني الرديء في قصّة أو مأساة غزّة الجارية، حيث عجز النظام العربي الرسمي كله في إيصال جرعة ماء لـ 2. 3 ملايين إنسان، يُقتلون عطشًا وجوعًا وقصفًا، حتّى رشفة الماء الأخيرة تلك فشل الأنظمة بجيوشها الجرارة في إيصالها إلى غزّة، وإن كان شيئًا مهزومًا قبل الحرب وفيها وبعدها، فهي هذه الأنظمة البائسة مدمنة المهانة والمذلة، كريهة الصوت والصورة والخطوات.

المشهد المصري الساقط برمته، يمنحنا الفرصة النادرة لإعادة قراءة واكتشاف ومعايرة مواقف كلّ الأطراف في الحرب الأميركية الشاملة التي تتمركز بؤرة النار فيها على غزّة، وتتمدّد حممها على بقية جبهات الشرف المفتوحة، في لبنان والعراق واليمن وسورية، ويرتّب علينا أولوية الحديث عن جبهة الشرف والعز التي وصفها الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله بـ"الجبهة المظلومة"، وهي بالفعل مظلومة، وما تقدمه المقاومة فيها من شهداء، وما تتحمله بيئتها الحاضنة من تضحيات لا يجد الصدى المناسب، ولو عربيًا على الأقل، هذا مع تجاهل خناجر الداخل وسمومه.

الثمن الذي دفعه حزب الله ولبنان مقابل موقفه بالدخول إلى المواجهة المسلحة مباشرة، هو ثمن يتناسب والقرار الكبير والشجاع، التضحية الغالية أمام صعوبة التحدّي ودقة الظرف، وأقل ما نعاينه هو الشهداء، حملة ألوية الفخر والمجد والصدق، وكلّ شهيد يحمل معه قصّة وخيوطًا طويلة مع عائلة وأم وأب وزوجة وأبناء وأخوة وأصدقاء وأقرباء، وهؤلاء من بيئة المقاومة من يدفعون اليوم أعزّ ضرائب الموقف العربي كله، من يتحمّلون هم جبهتهم المفتوحة، إضافة إلى فواتير جبهات الخسة والضعف والذلة.

ما يدفعه حزب الله هو التطبيق الحرفي لمقولة "بين السلة والذلة"، وهو دفع ويدفع صوابية خياره وبوصلته وإيمانه، ولم يدفع هذا الموقف ليحصد أو يجني في نهاية اليوم الأرباح، بل قدم ويقدم أكفان الكرامة كي لا يتحول لبنان إلى مصر أو الأردن، ورفض شروط العصر الأميركي أمس، وهو يرفض اليوم مطالب العصر الصهيوني.

وإذًا فليس من المناسب للحكم على قرار ما أن ننتزعه من سياقه وتطورات الأحداث التي أدت إليه، فتشوه وتفقد الصورة ملامحها، بل هو قراءة أمينة بالدرجة الأولى للعناصر التي حملت الحاضر إلينا، حين تعددت وتقابلت وتقاطعت لتشكّل الطريق وتحدد مواقع الأطراف، وكيف ترتبت هذه المواقف وتواصلت وتعاملت مع المتغيرات والظروف، ثمّ الأهم: سؤال ماذا بعد، ما الذي نريده من المستقبل، هذا إن كنا نرغب به فعلًا.

بالنسبة إلى جبهة لبنان، وحزب الله، فإن الهدف الأعز والأغلى كان دومًا إزالة "إسرائيل" من الوجود والصلاة في الأقصى، وأن "طوفان الأقصى" وقرار حزب الله بالانخراط المباشر فيه، ليس ومضة برق فريدة، وإنما مسيرة واحدة تواصلت خطاها قادرة واثقة، منذ لحظة البداية في 1982، مرورًا بالتحرير في 2000، ثمّ الانتصار في 2006، وصولًا إلى لحظتنا الحالية، وهو ما يعني أن قرار الاشتباك كان منطقيًا وطبيعيًا، وأن حركة الحزب المباركة الأولى قد وضعت الكيان محشورًا في الزاوية، وحتّى في هذا الظرف العصيب والواقع العربي المرير، فإن أميركا بكلّ قواها وجبروتها لا هي قادرة على انتزاع الكيان من مأزقه، ولا تستطيع أن تحقق نصرًا كاملًا، في ظلّ تهديد قائم بتوسيع المواجهة إلى أبعد مدى لها، حيث ستظهر نذرها الأولى في تحول أوراق القوّة العظمى إلى فرائس سهلة ومجانية بطول المنطقة وعرضها.

ليس غريبًا في الظرف الحالي، بكلّ ألقه وقدراته على استثارة الأحلام الغالية للأمة كلها، أن يكون مفتاحًا لإعادة قراءة بعض الحقائق القديمة، وغبار السنوات وظلالها البعيدة تبقى مدهشة ولها بريقها الخاص ورنتها المميزة، في يوم الخامس والعشرين من نيسان 1968، وعقب شهور من نكسة حزيران، خلال لقاء الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر مع المثقفين في جامعة القاهرة، أيام عز القاهرة، قال نصًا عن المعركة: "إن المشكلة ليست في الجلاء عن سيناء، ولو كان ذلك، ففي استطاعتنا تحقيقه غدا ببعض التنازلات، لكن المعركة في صميمها هي أن نكون أو لا نكون"، المعركة مع كيان العدوّ طبقًا للشخصية العربية بالأصل هي معركة وجود وحرب بقاء، بالمعنى المباشر لهذه الكلمات، وحلها الوحيد أن يبقى طرف وينتهي الآخر.

اليوم يشهد جنوب لبنان دمارًا صهيونيًا مقابل شمال فلسطين، واليوم - بالذات - أراد الأميركي أن تتحول مصر من نموذج ساقط، بدأ هو مسار الخيانة والتطبيع، ولم يجنِ في نهاية المطاف سوى الفقر والعجز وضياع الدور وتبديد إمكاناته، إلى نموذج "لامع" ذي بريق، وتبعًا له كان التدخل الإماراتي بحزمة الإنقاذ الأضخم إنقاذا واستكمالًا وسدًا لثغراتهم هم، خصوصًا مع تحول "طوفان الأقصى" من عملية انطلقت فلسطينيًا، إلى إرهاصات حرب إقليمية، لا يتصور العدوّ مداها، ولا يستطيع وضع سيناريو معين يخفض خسائره فيها، ويوقف نزيف الهيبة الأميركية.

وقبل كلّ شيء، وأي شيء، يرغب بشدة في أن يطفئ حدود إمكانات هذا الفعل المبارك، ويأبى أن تتحول المقاومة إلى حل واضح قاطع شامل لأزماتنا، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، وجذرها كلها واحد هو الشيطان الأميركي الخبيث.
..
لم يكن غريبًا الظهور المتفاخر لجنرال القاهرة، في حفل "معتاد" بضيوف مختارين بعناية، ليضحك كثيرًا ويردّد أن مصر لا تحاصر غزّة، ويحاول أن يوحي بأن القاهرة ربحت من موقفها الساقط، وأن "فلوس الإمارات" قد وصلت البنك المركزي، لكن الغريب هو إعادته لمصطلح شهير أعقب "كامب ديفيد" وميلاد طبقة أصدقاء واشنطن و"تل أبيب" الجدد من اللصوص ساكني القصور، ووصفهم بحس شعبي لاذع بالفرق بين "الذين عبروا والذين هبروا"، لم تكن مصادفة أن يطلب رئيس النظام المصري من رئيس وزراءه "هبرة"، وأن يكون هذا المستوى هو الحوار عند أعلى قمة في قاهرة اليوم، المقهورة المستكينة المستباح عرضها من عصابة.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف