نقاط على الحروف
ليلة مجمّع الشفاء.. الإرهاب المكثّف
حين قصف الصهاينة المستشفى المعمداني في غزّة في أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣، صُعق العالم أمام هول المجزرة وتخطّيها لأيّ تصوّر إنساني عن المباح والمحرّم في الحروب، لأنّ المستهدف فيها أطفال وعائلات في حرم مستشفى، هذا إذا سلّمنا جدلًا أن بقية المجازر التي وقعت منذ نشأة كيان الاحتلال هي أقلّ وحشية.
وبعدها، حين قصف "الشفاء" ثمّ اقتحمه، بدا وكأن العالم نفسه وجد في ذلك أمرًا اعتياديًا، لا سيّما مع الحملة الإعلامية الصهيونية التي سوّقت لكذبة وجود قيادات حماس في حرم المجمع الاستشفائي ووجود ذخائر للمقاومة في أروقته. هذه الحملة التي كانت قد بدأت بتمثيلية قامت بأدائها "بلوغر" صهيونية شهيرة، حيث لعبت دور ممرضة فلسطينية تناشد الجمهور التدخّل لحماية مستشفى الشفاء من المقاومة. وتلتها تمثيليات أخرى بعد اقتحام المستشفى؛ ومنها ادعاء العثور على صناديق ذخائر كانت الكاميرات سجّلت كيف أدخلها الجنود الصهاينة إلى المستشفى قبل موعد التصوير، ليقولوا إنّها وُجدت بالداخل، ولإضفاء "شرعية" ما على اقتحام مجمع طبي.
لم ينجُ "الشفاء" الممتلىء بالجرحى والمرضى والنازحين المدنيين من الحقد الصهيوني بالرغم من سقوط مزاعمه على مرأى العالم حول تواجد عناصر المقاومة وقياداتها وذخائرها فيه، وكما كلّ شبر في غزّة يتعرّض على مدار الساعة منذ ١٦٤ يومًا.. لكن اليوم عاد مجمّع الشفاء إلى واجهة بنك أهداف الإبادة المتواصلة.
بُعيد منتصف ليل أمس، أعلن جيش الاحتلال بدء عملية عسكرية في مستشفى الشفاء بناءً على ادعاءات استخباراتية حول وجود قيادات لحركة حماس داخل المستشفى. بكلام آخر، هو الادعاء نفسه الذي كذّبته الوقائع مرارًا.
اشتبكت المقاومة الفلسطينية قرب المستشفى مع قوّة صهيونية، وأوقعت أفرادها بين قتيل وجريح. وكان قصف المستشفى قد بدأ باستهداف الطوابق العلوية وأدّى إلى إصابات عديدة في صفوف المرضى واللاجئين.. ثمّة شهداء كانوا على سطح المبنى، من دون أن يتمكّن أحد من سحب جثامينهم بسبب كثافة النيران. هذا القصف تزامن مع استهداف محيط المستشفى بالقصف المدفعي ومحاصرة مدرستين بالقرب منه واقتحامهما واعتقال من فيهما من النازحين الرجال وقيام المروحيات الصهيونية بإطلاق النار على المدنيين في كلّ الشوارع المحيطة بالمجمّع. مع اقتراب ساعات الفجر، شبّت النيران في مبنى الجراحة التخصصية. شهداء وجرحى في باحة المستشفى وكثافة النيران تمنع سحبهم أو إسعافهم. دبابات العدو تتمركز عند بوابات المستشفى، ومكبرات الصوت تدعو النازحين إلى مغادرة المجمّع، ثم تستهدفهم بالنار إن تمكنوا من الخروج، مع اشتعال النار في البوابة الرئيسة فأدى إلى حالات اختناق في صفوف النساء والأطفال النازحين، فمن نجا من شظايا الصواريخ والقذائف والطلقات، اختنق محاصرًا داخل المجمع. هذا فضلًا عن النازحين الذين حوصروا في مبنى الجراحات التخصصية وفي ردهة الاستقبال في الطوارىء داخل المبنى الرقم ٨: "نحن محاصرون في قسم الطوارىء والغرفة تضررت من شظايا الصواريخ"؛ تلك كلمات الطبيبة آلاء السموني المحاصرة مع باقي الأطباء والمرضى والنازحين، وقد أشارت إلى أن العدو طلب إخراج الموجودين في المجمّع كلّه، وسمح فقط ببقاء الأطباء وجرحى العناية المركّزة.
وفيما أعلن الإعلام الإسرائيلي عن عدم العثور على أي من "المحتجزين الإسرائيليين" داخل مجمع الشفاء، استمرّ العدو بقصفه الهستيري للمجمّع: أكثر من أربعين غارة بالطيران، عدا القصف المدفعي وإطلاق النار، وعمليات التجريف في الباحة الرئيسة. وفيما أعلنت وزارة الصحة في غزَة عن تفاصيل الجريمة الشنيعة المتواصلة ضدّ المجمّع الطبيّ، وناشدت العالم لإيقافها، طلع الصباح ولمّا تنتهِ العملية الإبادية بعد، فالعدو أعلن عن إمكان استمرارها لعدّة أيام..
في هذه الأثناء، لمّا يزل مجمع الشفاء الطبي في غزّة تخت وابل النار، يمارس العدوّ ضدّ كلّ من فيه، ومعظمهم من الأطفال والنساء والطواقم الطبية، فعل الإبادة الصريح، بتفويض من عالم ينتقم من أهل الأرض؛ لأنهم مقاومون.. وما يزال، في صفوف عالمنا العربي والإسلامي من يمتلك ما يكفي من الوقاحة والجبن والخيانة ليبرّر العدوان، بل ويشجعّه..
في هذه الأثناء، ثمّة جثامين شهداء في العراء، في باحة الشفاء، وسطوح مبانيه.. ثمّة جرحى ينزفون من دون أن يتمكّن مسعف من الوصول إليهم.. ثمّة أطفال يعيشون لحظات رعب لا يقوى على تخيّلها صاحب أكثر المخيّلات قدرة على تصوّر لحظات الرعب ومفاعيلها.. ثمّة طاقم طبيّ يبذل قصارى جهده لأداء عمله تحت التار، وفي ظل الحصار وفقدان المواد الطبية...
في هذه الأثناء أيضًا، ثمّة مقاتلين يشتبكون مع العدوّ، ورجال من طينة الشرفاء الذين يبذلون دمهم في مواجهة العدو وترسانته الحربية المنتشرة في الشوارع المحيطة بالشفاء، وثمّة مقاومة تواصل استهداف الشرّ كلّه وإيلامه، وثمّة جبهات مساندة تنشط وتبذل أغلى ما لديها دفاعًا عن غزّة.. كذلك، ثمّة عالم إرهابيّ يتفرّج، بل يشارك في صناعة مشهد الإبادة الأعنف في التاريخ الحديث، وبعدها يوفد إلينا الطواقم الطبية والتعليمية كي يلقنّنا الدروس في أهمية القيم الإنسانية.
هي ليلة الإرهاب الصهيوني في مجمّع الشفاء.. هي ليلة تُضاف إلى قائمة مهولة من الليالي التي أمعن فيها الإرهاب الصهيوني في استباحة كلّ المحرمات، حتى تلك التي نصّ عليها القانون الدولي.. هي ليلة تزيد القلوب نقمة ويقينًا بوجوب قتال هذا العدو والانتصار عليه..
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024
ضاحية السيد: مدينة تسكننا!
16/11/2024
الانهزاميون ينتشون بفائض الحرب والتدمير
15/11/2024