معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

عن الأمهات في أمّ البلاد..
21/03/2024

عن الأمهات في أمّ البلاد..

أكثر من ثلاثين ألف شهيد واثني وسبعين ألف جريح، جلّهم من النساء والأطفال.. جملة واحدة تحوي كارثة إنسانية لم يُشهد لها مثيل معاصر، إبادة على مرأى أعين وكاميرات العالم. أمّهات ثكالى، أيتام شهدوا قتل أمهاتهم لحظة بلحظة.. وعائلات ارتقت بكاملها، فاجتمعت الأمهات مع أبنائهن في قبر واحد، إذا ما تيسّر لهم قبر.

ما حال الأمومة في غزّة اليوم؟ ما حال الأمهّات في أمّ البلاد؟!

أمام مشهد الإبادة الذي يأخذ القلب إلى أقصى الألم في لحظة واحدة، تحضر الأمهات في الواجهة: صبرٌ ما بعده صبر، أمومة في أوجّ توجّعها وقوّتها، ووعي يذهل العالم، ويقهره. من قال التألّم يتناقض مع الصبر؟! وهل الصبر سوى القدرة على احتمال أقصى المواجع من دون أن تتحوّل إلى سبب للتراجع أو الخضوع؟ من قال إنّ دموع القهر في عيون المظلومين تعنى الخضوع للظالم؟! المكابرة ها هنا تمثيلية تشوّه إنسانيتنا وفطرتنا.. الألم طبيعيّ، والتعبير عنه كذلك، وهنا تبرز قيمة التضحية والبذل.. فلا تضحية إن لم يكن ما يُرفع قربانًا أغلى من الرّوح، ولا بذل إن لم يكن الذي يُبذل عزيزًا، بل هو الأعزّ! وعهدًا بالضبط ما نراه في وجوه الأمهّات في غزّة.

في غزّة، جلست أمٌ تحتضن ثلاثة أكفان صغار.. الدموع نهرٌ يجري، والصّبر مدرسة.. حولها يجتمع أقارب لا يجدون كلامًا للمواساة.. تنظر إليهم، تبتسم.. تقبل الأكفان وتنهض. أمّ خرجت لجلب القليل من حبات الطحين عسى رغيف من خبزها يسكّن جوع الأولاد.. عادت لتجد البيت ركامًا وتحت الركام زوج وأبناء وبنات.. يا رباه! وقفت في ذهول مرّ، ترتجف كجسد تُنتزع منه الرّوح.. كانوا هنا.. مشت بعد قليل قرب الركام الحاوي فلذات روحها، تحمد ربّها: "نحنا إلنا الآخرة.. خلّوا الدنيا لأهل الدنيا!"..

أمّ في حرم المستشفى، أودعت جثامين حبات عيونها في البراد المخصص، تجول على الحاضرين: "ماتوا جوعانين!" من يعرف ما الذي يجري على قلب الأم إن غفا ولدها في مهده جائعًا، يستطيع أن يتخيّل قطرة من الجمر الذي كان يجري في قلب من غفى أبناؤها إلى الأبد، على جوع.

أم تبكي بصمت في رواق المستشفى، يصل مسعفون ومعهم طفلة بالكاد تتنفس تحت غطاء من دمها وغبار الركام: ابنتها! تركض خلفهم، بصوت يحوي كلّ جروح العالم وأجمل ترانيم الحمد: "هيدي بنتي.. بعدها عايشة؟! قولولي بعدها عايشة؟!"..

أمّ وقع منها طفلها الرضيع في الطريق المستحيل بين الشمال وبين الجنوب، الذي قيل سيكون آمنًا.. بحثت في كلّ مكان! لم تجده! رجاؤها أن تكون يد قد تلقفته من بين الجموع.. رجاؤها أن يتعرّف إليها أحدٌ على الشاشة، عسى تلقاه أو يُردّ إليها.. رجاؤها أن يكون على قيد الحياة فقط... أمّ فقدت توأمها الثلاثة بعد مئات من حقن تثبيت الحمل.. أمُّ تقبل رأسًا في الكفن وتعتذر عن عجزها عن ردّ الشظايا والركام عنه.. أمُّ تنظر إلى السماء، بلا صوت سوى صوت الدموع وهي تحفر في خديها دربًا لا تنتهي، ثمّ تهمس "لله ما أعطى.. لله ما أخذ".. أمّ تلد قيصريًا من دون تخدير، وقبل أن تضمّ الوليد يُنقل إلى غرفة الخدّج حيث لا كهرباء تمدّ الحاضنات بالأوكسيجين والضوء.. يُوضع بجانب خدّج مثله.. ويبكون يبكون حتّى صعود الروح من الأجساد الطريّة كالحبق! هذا القليل القليل ممّا رأينا وممّا صورّته الكاميرات وبثّته حول العالم.. وما خفي كان أشدّ إيلامًا وأوجع!

عيد الأم

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة