نقاط على الحروف
من الحلم بـ "جبهة" عريضة إلى بيان ضدّ المقاومة: "لقاء معراب" بحثًا عن تعظيم الحضور
بقي اللقاء الذي دعا إليه حزب "القوات اللبنانية" في معراب محط تساؤلات حول الأهداف والنتائج وملابسات الغياب لعدد كبير من الذين يدورون في فلك الطروحات السياسية لقوى 14 آذار سابقًا.
في الشكل: هو نوع من الاستدعاء إلى معراب لعقد اجتماع يبدأ بكلمة مركزية ووحيدة ومنقولة على الهواء مباشرة لرئيس "القوات" سمير جعجع يصغي إليها المشاركون المدعوّون، وينتهي ببيان سياسي لم يأتِ بجديد.
وقد طُرح سؤال عن طبيعة هذا الاجتماع: هل هو لقاء وطني أم مؤتمر أم جبهة؟ لا تتوفر في الاجتماع أي من هذه الأوصاف، إذ ينقصه العديد من مكوّنات "الطبخة" الوطنية (شكّل مسؤولو "القوات" ونوابها نسبة كبيرة من الحضور)، وهو ليس بمؤتمر بقدر ما هو كلمة لجعجع و"جلسة مغلقة" وبيان ختامي، ولا هو بصدد إعلان جبهة، وفق الوزير "القواتي" السابق غسان حاصباني، على أمل منه بأن تتكون هذه الجبهة بنتيجة مشاورات لاحقة.
التوصيف القريب للواقع: تجميع معارضين لحزب الله، ولكن ليس جميعهم، فبعضهم (فؤاد السنيورة، أحمد فتفت، نديم الجميل، فارس سعيد، أنطوان أندراوس، مصطفى علوش، مروان حمادة، وأغلب نواب كتلة "التغيير") غابوا ربما لأنهم لا يريدون أو يتحرّجون أن يعملوا تحت جناح جعجع، وبعض آخر (رئيس حزب الكتائب سامي الجميل مثلًا) فضّل انتداب من يمثله تفاديًا لأي إحراج. ووصفت قناة LBC حضور لقاء معراب بأنه "خجول" على ضوء "اعتذارات بالجملة"، ملمّحة إلى أن ذلك قد يكون "رسالة لجعجع برفض قيادته لقوى المعارضة". ووجّه بعض الغائبين رسالة إلى المجتمعين ألمحوا فيها إلى أنهم يعارضون أي توجه نحو "تغيير الصيغة" أو "تعديل دستور" الطائف، في إشارة ضمنية إلى قول جعجع في مقابلة متلفزة مؤخرًا بأن "الفدراليّة ليست طرح "Taboo" (محرَّمًا)، لكنّه يتطلب موافقة الأفرقاء في لبنان، ولاتّخاذ الموقف منه علينا أن نبحث الموضوع”.
في التوقيت: بدا أن جعجع يحاول استكمال مناخ التعبئة الذي رافق اختفاء ومقتل منسق "القوات" في جبيل باسكال سليمان. وهو يرى أن الفرصة قد تكون مؤاتية لتزعّم "جبهة" ضدّ حزب الله والمقاومة الحاصلة اليوم على حدود لبنان مع فلسطين، بالتوازي مع التحرك الجاري من قبل اللجنة الخماسية العربية - الغربية لتحريك موضوع الاستحقاق الرئاسي.
أما في المضمون، فهناك إشارات يحسن التوقف عندها:
- حذر جعجع، متوجهًا إلى اللبنانيين، من أن "الأمور ذاهبة نحو الأعظم" وأن الأوضاع في جنوب لبنان "قد تتطور إلى حرب شبه شاملة". وهذا الكلام ليس جديدًا، إذ يقال منذ بدء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزّة. والواقع أن العدوّ لا يقصّر في توجيه التهديدات للبنان، والمقاومة لا تقصّر بدورها في ملاقاته عند النقطة صفر على الحدود "حيث لا يجرؤ الآخرون". والسؤال هنا: ما هو تصوّر "القوات" في حال شن العدوّ حربًا شاملة أو شبه شاملة على لبنان؟ هل ستهبّ لمقاومة العدو، جنبًا إلى جنب مع حزب الله والقوى الحليفة، أم ستأخذ وجهة أخرى تتلاءم وتموضعها في قبالة حزب الله وتحالفها مع الغرب المؤيد بشدة لـ"إسرائيل"؟
هنا، تلعب "القوات" ورئيسها لعبة التخويف، التخويف بـ"إسرائيل" طبعًا، وهو تخويف يثير السؤال عما إذا كان هناك رهان سياسي على قلب مسار الأمور رأسًا على عقب، على غرار ما حصل عام 1982، حين سلّمت "إسرائيل" الحكم إلى فريق حزب "الكتائب" وحلفائه، لكن الأمر لم يدم لهم طويلًا، حيث قلبوا الربح خسارة فادحة للمسيحيين عامة بسبب ضيق الأفق السياسي وعدم القدرة على تسييل الحضور العسكري الإسرائيلي لمصلحة هذا الفريق السياسي.
- يتابع جعجع: "ونحن مجموعة شخصيات وكتل ونواب وقادة رأي وصحفيين لا نستطيع أن نكمّل مكتوفي الأيدي". وهذا عرض ليس بجديد أيضًا، فلطالما عمل لدفع الناس بعيدًا عن المقاومة والتحشيد ضدّها بكلّ ما استطاع إليه سبيلًا. فهل يلمّح إلى استعداد للقيام بدور ما في المرحلة المقبلة في سياق الاعتراض على المقاومة؟ وما هي طبيعة هذا الدور؟
- أبدى جعجع في كلمته حرصًا على لبنان وجنوبه. والسؤال: ماذا فعل وفريقه وحلفاؤه لأهل الجنوب النازحين؟ هل قاموا بحملة إيواء أو جمع مواد عينية لتوفير أبسط مقومات الدعم للنازحين، أم واظبوا على التباكي وإطلاق الإتهامات للمقاومة "على الطالع والنازل" بالعمل لأجل إيران والاستبشار بأن "إسرائيل" ستشن حربًا واسعة بين وقت وآخر تعيد لبنان إلى الوراء عشرات السنين وستجعل الضاحية الجنوبية ملعبًا لكرة القدم، كما يتفكّه مناصرو "القوات" أنفسهم على مواقع التواصل. وماذا فعلوا لجبهة الجنوب غير تبنّي سردية العدوّ ضدّ حزب الله والاحتفاء بالغارات الإسرائيلية وقتل كوادر حزب الله المقاومين؟
- إذا كان جعجع يرى أن المقاومة في الجنوب "لم تُفِد فلسطين بأي شيء"، فهذا رأيه، لكنّه بالتأكيد ليس رأي المقاومة الفلسطينية التي توجّه التحية والتقدير للمقاومة في لبنان والمنطقة في كلّ وقت. وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى أن المقاومة في لبنان سلكت أقل الخيارات ضررًا على لبنان وأكثرها استدامةً لنصرة فلسطين، فلا هي ذهبت إلى الانخراط في المعركة وفق تمنيات الذين كانوا يستسهلون تكرار سيناريو "طوفان الأقصى" على جبهة شمالي فلسطين من دون أي دراسة ميدانية واقعية، ولا هي فضّلت القعود عن واجب نصرة الشعب الفلسطيني في معركته المصيرية، كما يدعو بعض المنتقدين ومنهم "القوات" ومن معها. وبذلك، سلكت أداء مدروسًا ضاغطًا على العدوّ لتشتيت قواته وزيادة إرهاقها والمساهمة في منعها من تحقيق انتصار عسكري في غزّة سيوظَّف عاجلًا أو آجلًا ضدّ لبنان. ولسائلٍ أن يسأل: ما الذي فعلته "القوات" منذ 7 تشرين الأول 2023 لإفادة فلسطين وشعبها الذي يتعرض لأعتى عدوان صهيوني، على الأقل من النواحي السياسية والإعلامية والإنسانية، ما خلا التصويب على المقاومة وتسخيف إنجازاتها والتنكر لصمود شعبها الأسطوري وتعظيم صورة التدمير الإسرائيلي على أنها الحقيقة الوحيدة المطلقة؟
- رأى جعجع أن "حزب الله غير قادر على الدفاع عن لبنان، كما أثبتت الوقائع"، لكن الوقائع تقول خلاف ذلك. إذ لو كانت الأمور كما يصوّر رئيس حزب "القوات"، لكانت "إسرائيل" تسرح في لبنان طولًا وعرضًا. ومن ينظر إلى مسرح القتال اليومي يدرك أن العدوّ مكبّل في خياراته العسكرية منذ أكثر من ستة شهور ونصف ويحسب لكل خطوة حسابًا، ولو كانت الخيارات مفتوحة أمامه لكنا رأينا اليوم مشهدًا مختلفًا تمامًا، سواء على صعيد البر أو الجو. ونتذكر في مرحلة ما قبل العام 1982 كيف كان العدوّ يقصف حيّ الفاكهاني والمدينة الرياضية في بيروت عند أي تطوّر أو عملية عند الحدود وتتوغل قواته في بلدات الجنوب، فكيف الحال اليوم والجنون الإسرائيلي في أوجه؟
- دعا إلى "انسحاب حزب الله (من الحدود) إلى الداخل" من دون انتظار وقف العدوان على غزّة. تبدو هذه الدعوة بعيدة عن أي رؤية واقعية وتتوافق مع مطلب إسرائيلي صريح، بل وأبعد مما يرجوه العدوّ ويضغط بالنار لتحقيقه وهو ابتعاد المقاومة عن الحدود 10 كيلومترات وليس "إلى الداخل"، كما يطالب جعجع "كمرحلة أولى". وهو يدرك أن انسحاب المقاومة اليوم سيسجله العدوّ انتصارًا لجيشه كنتيجة لعملياته الحربية، وسيكون تقدمة مجانية في عزّ حاجته إلى تحقيق انتصار عسكري ومعنوي في أيامه القاحلة! ولعل انسحابًا غير مشروط من هذا القبيل سيكون - بخلاف ما يأمل جعجع - أسوأ "رسالة ردع" يمكن أن توجَّه للعدو، ويمكن أن يفتح شهيته ليبني على خطوة كهذه مطالب إضافية، كما هي عادة العدوّ عند أي تنازل يحصل من قبل الطرف المقابل.
السياق الأوسع
يرى بعض المراقبين أن جعجع غائب عن رادار الاهتمام الإقليمي والدولي. وهذا ما أقرّ به أمام وفد نقابة المحرّرين منذ أسابيع حين أشار إلى عدم تواصل العواصم العربيّة معه. وهو لذلك، يحاول إعادة تظهير حضوره وتقديم نفسه قائدًا لـ "جبهة عريضة"، لكنّها ليست عريضة بما يكفي للقول إنها شاملة لكل المعارضين، ولا بالتأكيد كافية لمجابهة حزب الله إن كان هذا هو الغرض من اجتماع معراب عبر القول "إننا لا نستطيع أن نكمّل مكتوفي الأيدي" أمام "الخطر الذي يطاولنا ويطاول الجنوب".
لقد قدّم محازبو "القوات" في الشارع مؤخرًا عرضًا عنيفًا للقوة ضدّ أفراد عُزل من المقيمين السوريين في بعض مناطق لبنان، مترافقًا مع مطالبة لهم بالخروج الفوري من هذه المناطق تحت طائلة التهديد والوعيد، لكن هذا التعامل يدين "القوات" أكثر مما يفيدها، سواء لناحية الانتقام العشوائي من كلّ من هو سوري، مقيمًا كان بشكل قانوني أم غير قانوني، أو لناحية أن "القوات" التحقت بالركب متأخرة في موضوع المطالبة بإعادة النازحين إلى بلدهم على نحو مستعجل. اليوم تتذكر "القوات" وحلفاؤها أن لبنان ليس بلد لجوء، وهي التي أصرّت في السابق على اعتبار النازحين لاجئين ولن يعودوا إلى بلدهم في الظروف الراهنة انطلاقًا من التماهي مع موقف غربي واضح يربط عودة النازحين بإحداث تغيير سياسي في سورية. كما عارضت "القوات" وحلفاؤها قيام الجيش والمقاومة بعملية عسكرية ضدّ الجماعات الإرهابية المسلحة التي كانت تحتلّ جرود لبنان الشرقية انطلاقًا من الخلفية نفسها. فإذا كانت رهاناتها من هذا النوع، فكيف يمكن الوثوق بصوابية تقديراتها للمصلحة اللبنانية العامة؟
وقد تكون عودة جعجع للتصويب على حزب الله هي لإعادة جمع ما تفرق من شمل "العشّاق"، بعد "النقزة" التي أحدثها عدم استبعاده البحث في طرح الفيدرالية وبسبب أداء محازبيه ضدّ السوريين خطابًا وممارسة.
لا تبحث "القوات" عن كلمة سواء أو قواسم مشتركة، ولا هي تعترف بخطأ رهاناتٍ تبنتها في السنوات الماضية، كما سلفت الإشارة في موضوع النازحين أو معارضة الحسم ضدّ الجماعات الإرهابية في الجرود أو في انتظارها تغييرات في الفضاء الإقليمي لمصلحة مسار التطبيع مع العدو، بل تبحث عن "نواقص" تسجّلها على المقاومة وتدعو لتغيير في الجنوب يريح الاحتلال، ولا تزال تعقد آمالًا على تدخل أجنبي سياسي أو عسكري أو اقتصادي يضرّ بقسم من اللبنانيين، وبلبنان في جميع الأحوال، على أمل أن يفيدها في تعزيز موقعها في المعادلة الداخلية أو في الشارع المسيحي على أقل تقدير، بعد إزاحة خصومها من الطريق.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024
ضاحية السيد: مدينة تسكننا!
16/11/2024
الانهزاميون ينتشون بفائض الحرب والتدمير
15/11/2024