معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

اخلعْ نعلَيك
16/05/2024

اخلعْ نعلَيك

ميساء حمود

إلى الشهيدين عباس محمد رعد وحسن محمد إسماعيل

في حيّنا الترابي الصغير، في تلك القرية الوادعة المشبعة طيبة وسكونًا، يكمن سرٌّ عجيب يسفر فقط لذي العينين. في حيّنا تشرق الشمس تتهادى أشعتها لامعة على الجلول الملأى بالخيرات، على البيوت الدافئة المعتقة برائحة القهوة والصباحات الوادعة. تتهادى الشمس، تتراقص وتؤذن للقرى المحيطة بالفلاح وبشائر الخير.

لم تخذلنا شمس "صافي" يومًا حتّى في الأيام الباردة، كان الجبل نظيرها وكان الشمس والبوصلة. لم نشعر بالبرد بل غمرنا جلاله وهيبته ومآذن جباع وعين بوسوار. في حيّنا لم يكن للصقيع معنى، كنا نلتحف "صافي" ويدثرنا ضبابه.

ثم أذن ربك للأرض أن تهتزّ وتربو وتفجر ينابيع النجيع ريًّا رويًّا هانئًا، وكان ذلك الحيّ الوادع عينًا من عيون الأرض الطيبة، فأغدق على نهر الدم شهيدين اثنين بل قمرين وجارين، وهنا رفع القلم وجفت الصحف وسقط الكلم...

عباس وحسن كانا جارين يسكنان في حيّنا الترابي البسيط. وللجيرة في ديننا حق وعرف وشأن عظيم، ويشهد الله أنهما أدّيا للجيرة حقها وأكثر. هل تقابلتما وجهًا لوجه ذات مرة؟ لعمري يا حسن أنك لم ترفع طرفك قط لتنظر إلى وجه عباس، وسلمت ورأسك يحاكي تراب الأرض. هكذا أنت... لعلكما أفسحتما الطريق لتمر سيارة أحدكما ولسانكما يلهج بالشكر والسلام وصباحات الجيران الدافئة. لعلّ عباسًا رمق طيفك يا حسن وأنت تحرث الأرض، أيها الوافر الطيبة والترابية، وأعجب بك. عباس (العشراوي) يحب الناس والجيرة ويحب الأرض حتّى أودعها دمه.

وأنت يا حسن كنت تعرف أن في حينا يسكن قائد لم نفقه كنهه إلا حين شهادته، قائدٌ كالطيف أو أرقّ، لا نعلم منه إلا خيرًا، وكانت جدتك وهي تمر على دياره تهديهم من خيرات الأرض كما تهدي كلّ الجيران وتودعهم بلسم الدعاء. لعلك زرتهم معها يومًا ورمقت سراجًا بطرفك فأدركت العيون سر الشهادة الذي يودعه الله في المصطفين. أراهن يا حسن، وأنت المزارع الكادح الحنون، أنك لاحظت عطاء الأرض هذا العام وافرًا فتبسمت، كما لاحظت أن الورد أزهر باكرًا وأن السكوكع تماوج مع العشب ليرسم جنة على الأرض سريعًا هذا العام، وأن الربيع كان غير الربيع والضوع مسك شهيد. ولم يخفَ عليك وأنت الطاهر الفطن أن الشهيد في حينا فَعلَ فِعل السحر فأنبتت الأرض وأزهرت.
لعل الكثير كان بينكما أو لعلّ الرابط الوحيد كان هو الحيّ الترابي. لا أعلم ولا أملك الأهلية ولا الصفاء الكافي لأعلم وأدرك أسرار أهل الحب والعشق. ولكن ما حفرته دماؤكما على صفحة القلب كان غائرًا...

لن يبرد أحدٌ في حينا بعد الآن، سيجللنا "صافي" بجلاله. لن يتأخر حصادٌ أو زرعٌ. لن نستشعر يباسًا. ستشرق الشمس من عندنا ويتلالأ معدن الدماء. ستزداد قلوبنا قهرًا وصراخًا صامتًا وذكريات حبيسة قاهرة كلما وقفت على شرفة بيتنا ونظرت إلى بيتك الجديد يا حسن وسمعت أصوات ملائكتك يا سراج... سنبكي كثيرًا وستلتهب الآهات من شغاف القلب، وسنخلع ذواتنا البائسات قبل أن نطأ التراب ونلج محراب طهركم..

أنّى أدرت الطرف في حيّنا، سيسري السحر في حواسك، ويصير للدفء معنى آخر وللشمس معنى آخر. ستدرك أن من الدم سحرًا. لا تعجب بل ألقِ السمع واشهد ففي حينا شهداء.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف