نقاط على الحروف
بين غزّة وبنسلفانيا.. ازدواجية المعايير مجددًا
تحوّلت أنظار العالم منذ أيام إلى الولايات المتحدة الأميركية وتحديدًا إلى ولاية بنسلفانيا، حيث تعرض الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لإطلاق نار في أثناء إلقائه لخطابٍ انتخابي أمام جمهوره، لكن الحادث اقتصر على إصابة المرشّح الجمهوري بجرحٍ طفيفٍ فقط، ليتصدر بعدها الخبر المنصات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي على مستوى العالم لأيامٍ عدّة.
الحدث، والذي لم يتعدّ بتفاصيله ساعةً من الزمن، استقطب أنظار قادة العالم إليه، فانهالت رسائل وتصريحات الإدانات والدعوات بالشفاء العاجل للرئيس المنتظر قدومه. وقد شملت هذه التصريحات العديد من رؤساء وقادة الدول العربية الذين كانوا سبّاقين لإدانة "المجرم" ومواساة البيت الأبيض. وبغضّ النظر عن تفاصيل الحدث وتداعياته المستقبلية على نتائج الانتخابات الأميركية، إلا أن احتمالات التشكيك بمصداقيته كانت حاضرة في عدد ليس بقليل من التحليلات التي تلته.
لقد انشغل العالم بتفاصيل الواقعة منذ لحظاتها الأولى، وصولًا لدراسة وتحليل تأثيراتها الاستراتيجية والدولية، انطلاقًا من تأثيرها المدوّي على الساحة السياسية الأميركية وكذلك العالمية، مرورًا بتداعياتها القوية على الأسواق المالية. وكلّ ذلك وسط "احتضان" دولي لترامب والولايات المتحدة ككل، وترقب حذر لما ستؤول إليه الأمور في ما بعد. وفي وسط هذا الانشغال العالمي والترقّب المستمر، يقودنا الواقع مجددًا إلى الجهة الأخرى من هذا الكوكب، إلى غزّة الجريحة التي تعيش كلّ لحظة معاناة أشد دموية وألمًا وقساوةً بما لا تصح مقارنته مع ما شهدته بنسلفانيا.
لكن المقاربة بين المشهدين هنا قائمة على اختلاف نظرة وتفاعل العالم والدول مع كلّ منهما، إذ بينما ينظر الكثير من قادة العالم "المتحضّر" إلى الحرب الوحشية على غزّة على أساس أن "إسرائيل" تخطّت حدود الدفاع عن النفس"؛ لكنّها لم ترقَ لمستوى "الإبادة الجماعية". يرى هؤلاء، على مقلب آخر، أن حادثة ترامب ترقى إلى مستوى الاغتيال السياسي الذي كاد أن يزلزل العالم، وبينما اقتصر تفاعل قادة الدول - ضمنًا العربية منها - في ما يرتبط بالعدوان على غزة، على الإدانات بـ"أشدّ العبارات"، ودعوة "إسرائيل" إلى "توخي الحذر" في هجماتها على المدنيين في غزّة، وجّه هؤلاء أنفسهم دعوات إلى ملاحقة المتسبب بحادثة ترامب، وعبّروا بشدة عن خوفهم من انزلاق الولايات المتحدة لدوامة العنف السياسي.
في هذه النقطة؛ ثمة توضيح لا بدّ من ذكره، وهو ينطوي على فكرة أن تفاعل الأنظمة الحاكمة، ودول المنطقة بالتحديد، مع حادثة ترامب، لا يأتي فقط من باب "الحرص" على سلامة الرئيس المستقبلي المرجّح واستقرار الولايات المتحدة الأميركية الداخلي، بل أيضًا وبالوقت نفسه قد يكون مصدرها هو قلق بعضهم من وصوله فعلًا إلى سدّة الرئاسة، لأن هذه الدول تخشى سياساته الغاشمة وجشعه وهوسه بجمع المال وإبرام الصفقات وحصد مليارات الدولارات، سواء لمصلحة الاقتصاد الأميركي أم لمصلحة مشروعاته الخاصة.
وبالعودة إلى محور المقاربة، ممّا لا شكّ فيه أن حرب غزّة فضحت ازدواجية المعايير في تعامل دول العالم "المتقدم" والتابعين لهم مع أحداث العنف والإجرام والحروب في شتّى أنحاء العالم، وبالطبع يأتي في مقدمتها دول الغرب وحلفاء الولايات المتحدة الأميركية و"أصدقاؤها" في منطقة الشرق الأوسط وباقي مناطق العالم، حيث وصل الأمر بوسائل الإعلام الغربية إلى حدود النفاق والرياء، انحيازٌ تام لـ" إسرائيل"، وتبنّي أكاذيب وتلفيق أخبار زائفة عن قتل أطفال وقطع رؤوس وذبح واغتصاب "إسرائيليات"، وكلّ ذلك من أجل تصوير "إسرائيل" على أنّها ضحية مظلومة، ومنحها الغطاء الدولي لارتكاب جرائمها.
اليوم؛ ومع وقوع حادثة بنسلفانيا يتجسد المشهد مجددًا، والفارق هنا أن الطرف المقابل في المقاربة ليست الحرب الروسية - الأوكرانية، بل الولايات المتحدة الأميركية بحد ذاتها، القوّة الأولى في رعاية الإجرام والحروب الدموية العالمية التي تهافتت الأنظمة الدولية العاملة تحت رعايتها وسلطتها إلى توفير أرضية لاحتضانها في مثل هكذا حدث "خطير"، بينما أكثر من 39.000 شهيد فلسطيني في غزّة لم يحركوا ضمائر هؤلاء، ولم يدفعوهم لوقف أشنع إبادة جماعية عرفها التاريخ.
ما يهم اليوم هو نظرة الشعوب والأمم لحقيقة ما يجري منذ عشرة أشهر على أطفال ونساء وشيوخ غزّة، وإدراكهم لحجم العنصرية والكذب والانحطاط الأخلاقي الذي تمارسه أنظمة دولهم المتواطئة مع الكيان الصهيوني علنًا وسرًّا، وبالتالي دحضهم للشعارات الإنسانية الزائفة التي أغرقت هذه الدول الأمم فيها على امتداد عقود، ليتبيّن لاحقًا انها لا تخدم سوى مصالحها السياسية والاستعمارية حتّى وإن كان ذلك على حساب جثث أطفال غزّة المقطّعة.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024
ضاحية السيد: مدينة تسكننا!
16/11/2024
الانهزاميون ينتشون بفائض الحرب والتدمير
15/11/2024