معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

إعادة الاعتبار للشعارات والعنتريات!!
08/06/2019

إعادة الاعتبار للشعارات والعنتريات!!

إياد حرفوش - كاتب عربي من مصر

"كفانا شعارات" .. "كفوا عن العنتريات التي ما قتلت ذبابة!"
كم مرة بعمرك سمعت وقرأت هاتين العبارتين؟ لابد أنك سمعتهما وقرأتهما عشرات إن لم يكن مئات المرات! ففي مختلف دروب النقاش صارت تلك العبارات مستخدمة بوفرة حتى لكأنها صارت مسلمات لا تقبل الجدل، أو مقدسات لا تخضع لعقل. راجت هذه المعاني بصفة خاصة في زمن التراجع الثوري العربي منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، مرورا بكل جرعات الهوان التي تجرعناها في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، فلعبت دور المبرر لكل تنازل والمسوغ الذي يذهب بطعم الهوان من أفواهنا. فصارت تلك العبارات الناقدة للشعارات هي ذاتها بمثابة الشعار لجماعات "الواقعيين" أو "الواقعين" في واقعنا العربي المعاصر. لهذا نضعها اليوم تحت المجهر ونخضعها لعين فاحصة، خاصة ونحن نتوقع لها رواجا استثنائيا في ضجيج صفقة القرن الذي نستبعد معه أي طحن!

 
نبدأ بعبارة "كفانا شعارات"! ولكن من قال يا سادة أن الأمم ينبغي لها التوقف عن إطلاق الشعارات واستخدامها؟ من واقع عملي المهني، أعتقد أنني مؤهل بالخبرة العملية والخلفية العلمية الإدارية الكافية لأقول أن كل مؤسسة تستحق هذا الوصف على كوكب الأرض تطلق شعارات تهدف بها لعدة أهداف:
(1) حشد طاقات مواردها البشرية وتعبئة حماسها لخدمة هدف عام.
(2) توضيح رؤية المؤسسة ورسالتها بإيجاز للجماهير خارج المؤسسة.

وتتغير هذه الشعارات وفقا لمراحل تطور المؤسسة والتحديات التي تواجهها في واقعها. لنفس هذين السببين تطلق الحكومات المتعاقبة في أعرق الديمقراطيات شعارات تهدف بها إلى حشد طاقات مواطنيها خلف أهداف قومية تتطلبها ضرورات المرحلة أو يتطلبها استشراف المستقبل، وتوضح بها كذلك للعالم الخارجي نسقا عاما لسياسة تلك الدولة. كذلك تفعل مختلف الأحزاب والحملات الانتخابية. فعندما أطلقت حملة ترامب شعار "أمريكا أولا" كانت توضح بها رؤية الرئيس الأمريكي (المرشح وقتها) الانكفائية نوعا ما والتي بدأ بها حكمه بالفعل وإن ظهر مؤخرا أنه أخضعها لبعض التغيير. كذلك كان الشعار يهدف لحشد الأمريكيين وإثارة حماسهم لفكرة دولة أمريكية أكثر انشغالا بالداخل وأقل انغماسا في الخارج. سيجيبك صاحب العبارة بأن المقصود أن شعاراتنا في الماضي كانت أكبر كثيرا من واقعنا، ولم تكن تناسب إمكاناتنا. وهنا نجيبه: مرة أخرى يا سيدي، من قال أن الشعارات يجب أن تكون واقعية؟ سأضرب مرة أخرى مثلا من الواقع الأمريكي لأني أعرف ولع "الواقعيين" العرب بعمهم سام! هل كان شعار حملة أوباما الرئاسية "نعم نستطيع" واقعيا؟ هذا الزعم المطلق وغير-المحدود للاستطاعة لا يكون واقعيا إلا لو أطلقه إله. النسخة الواقعية منه ستكون "نعم نستطيع تحقيق الكثير وهناك ما لا يمكننا تحقيقه". ولكن هل هذا شعار؟ الشعار بطبيعته مطلق، محلق، يستشرف آفاق السماء. لأن هدفه الأساس هو إثارة الحماس. إنه كالنشيد الوطني. كل أمة فوق هذا الكوكب تقريبا يقول نشيدها الوطني بصورة أو بأخرى أنها أعظم الأمم، صغرت تلك الأمة أو كبرت، عزت أو ذلت، استقلت أو تبعت.
 
لم تكن مشكلتنا في الماضي هي الشعارات والمنظومة القيمية التي تبنيناها أبدا. كانت المشكلة أن تحديات واقعنا العربي كانت أكبر من الطاقات التي تمكنا من حشدها نحو الهدف. فلا يكون الحل إلا بحشد مزيد من الطاقات. لكن ما جرى في زمن التراجع الثوري أننا فقدنا وضوح الهدف أولا، ومن ثم فقدنا رؤيتنا الوطنية والقومية، وفقدنا إدراكنا لرسالتنا التي نعيش لإنجازها، وأضعنا الاستراتيجية التي تصل بنا إليه، وبالتالي لم نعد بحاجة إلى شعار يعبر عن رؤية غائمة بأقل تقدير أو غائبة بأكثره.
 
نأتي لموضوع العنتريات التي لم تقتل ذبابة. لأن العنتريات منسوبة قطعا للفارس والشاعر الجاهلي "عنترة بن شداد"، فأنا أجد أن من سك العبارة واهن الإدراك. لأن عنترة كان يصول كما يقول، وإن أضافت السيرة الشعبية على صولته كثيرا من الخوارق، لكنه كان فارسا قل صنوه ولا ريب. لكن لنتجاوز عن هذا الخطأ الشكلي إلى المضمون. المقصود بالعنتريات أن يكون كلامنا مكتظا بالحماسة والفخر اللذين عرفت بهما معلقة عنترة. من جديد نعود فنسأل: ولكن من قال لكم أن لهذا أثر سلبي؟ من قال لكم أن هذا لا يبني نفسية وذهنية الفارس القادر على قتال الأقران وليس الذباب؟ العلاقة النفسية بين القولة والصولة علاقة طردية يا سادة. عليكم أن تستحضروا مصرع المتنبي الذي قيل فيه أنه حاول تجنب قطاع الطرق فذكره غلامه بالبيت الذي قال فيه:
الخيل والليل والبيداء تعرفني .. والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فكبر على المتنبي أن يفر من وجه قاتليه، ولوى عنان فرسه فكر عليهم حتى قتل هو وولده. عليكم أن تستحضروا الحالة الشعورية لعمرو بن الإطنابة وهو ينشد وسط الوطيس مخاطبا نفسه التي جزعت من الموت وراودته في الفرار:
فقلت لها وقد جشأت وجاشت .. مكانك تحمدي أو تستريحي
أو ربما كان عليكم أن تستحضروا ما قاله يوما الشيخ راغب حرب في لبنان. إذ ذكر يوما احتمال موته شهيدا فقالت زوجته بتلقائية "الله لا يقدر"، ليجيبها "بدك إياني أكلم العالم عن الشهادة، وبس يقرب الموسى على لحيتي والله يريد يطعمني الشهادة، نقول الله لا يقدر؟ ولك الله يقدر ويقدر". وبالفعل، قدر له الله ما تمناه وأطعمه الشهادة. أو تستعيدوا ما قاله الزعيم جمال عبد الناصر لمجلس السوفيت الأعلى وهو يفاوضهم للحصول على بطاريات الصواريخ المطلوبة لتغطية عبور قناة السويس قبيل وفاته. إذ يقول "لن أقول لكم أنكم لو لم تعطونا ما نحتاجه من أسلحة للعبور وتحرير الأرض فسأذهب لأفاوض الأمريكي. تاريخي وما قلته وما فعلته يمنعني من ذلك. لكنني ربما أضطر أن أذهب ليأتي مكاني من يستطيع مفاوضة الأمريكي". في هكذا مواقف يكون كريم القول دافعا إضافيا لكريم الفعل. فقط عندما نتحدث عن الرجال الرجال! لأن هؤلاء يستحون من أنفسهم أن يناقض فعلهم قولهم. فلا عيب أبدا في حديث الفخر والحماسة، وإنما يكون العيب فيه لو صدر من صغار الرجال، هؤلاء الذين لا يمضهم أن تكون قولتهم بلا صولة، ولا يستحون أن يجافي هوان فعالهم عنان أقوالهم.
 
في النهاية أيها "الواقعيون"، الواقعية من الارتباط بالواقع وليست من الوقوع ركعا وسجودا أمام العدو. والارتباط بالواقع لا يعني غياب الحلم ولا يعني عدم استشراف المستقبل المرجو والتعبير عنه بالشعارات. كذلك لا يعني الارتباط بالواقع غياب الحماسة لتحقق الذات الفردية والوطنية والقومية والفخر بتلك الذات عندما تتحقق. معركتنا يجب أن تكون في حشد الطاقات البناءة للأمة لتعمل بجد نحو تحقيق الشعارات التي نطلقها، ويجب أن تكون في استعادة ذهنية الرجال الرجال الذين يفيضون حماسة وفخرا، وبمثلهم وحدهم، تتبدل الأحوال!

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف