نقاط على الحروف
إشكالية المصطلح في حرب الدعاية على المقاومة
أوردت إحدى القنوات العربية على شاشتها، قبل أيام، خبرًا عاجلًا جاء فيه "أطلقت إسرائيل عملية عسكرية في الضفة الغربية باسم عملية السور الحديدي"، وفي خبر آخر أوردت عبارة: "اشتباكات عنيفة بين مسلّحين فلسطينيين والقوات الإسرائيلية في جنين".. هذان نموذجان بسيطان ومباشران على إشكالية المصطلح الذي تسعى المنظومة الدعائية الغربية إلى تسويقه، في أدبيات الإعلام والسياسة العربية، في إطار الحرب الشاملة على جبهة المقاومة ومحورها في المنطقة.
وإن يتعلّق هذان الخبران بالممارسات العدوانية التي ترتكبها قوات الاحتلال، في مدن الضفة الغربية ومناطقها، سعيًا لاستكمال السيطرة الأمنية الشاملة على الوجود الفلسطيني كلّه، لكنهما يعبّران عن حال الإعلام العربي الذي تحوّل إلى بوق صهيوني معادٍّ للفلسطينيين والقضية الفلسطينية والمقاومة بشكل مباشر، ومن دون أي تورية أو تلفيق. ويتجلّى ذلك في الصياغة الخبرية وأسلوب إعداد الأسئلة للضيوف، في البرامج الحوارية ومضمونها، فضلًا عن الاستغراق في اعتماد المصطلحات الممنهجة التي تعكس سياسة الانحياز في وسائل الإعلام، ونتحدث هنا عن الفضائيات العربية، وبعضها اللبناني ومواقعها الإلكترونية المرتبطة، وليس عن الإعلام الغربي والصهيوني المعادي.
ما ذهبنا إليه ليس جديدًا؛ إذا ما عرفنا أن تأسيس هذه الفضائيات (العربية واللبنانية) جاء أصلًا من أجل تسويق مشاريع التسوية التي تسعى إليها الولايات المتحدة والغرب عمومًا منذ ما قبل ثمانينيات القرن الماضي، خصوصًا بعد أن استتب واقع زرع الكيان الصهيوني في قلب المنطقة العربية والإسلامية، مترافقًا مع الحملات الثقافية الهادفة إلى تغريب ما اصطُلح عليه بـ "الهوية الشرقية"، واستثمار الواقع الاستهلاكي بين الشعوب من أجل فرض النمط الغربي في التفكير والسلوك؛ وصولًا إلى تبني "الهوية الغربية" واعتناقها مذهبًا اجتماعيًا وتربويًا، وما إلى ذلك من أنماط تعيد صياغة الشخصية العربية والإسلامية وتحّدد اتجاهاتها الجديدة.
إنها قضية الاصطلاح التي تبدأ رحلتها مع "الكلمة" كونها مفتاح اللغة والانتماء، وتدخل في بعض الحالات في تأصيل العرق واللون، ولأنها تعبّر عن الموقف والاتجاه، وتعكس الخلفيات العقدية والدينية في أوجهها الطقوسية والعبادية. ويتعاظم خطر هذه القضية حين يدقّ باب السياسة ليتحوّل معها الإعلام أداةّ دعائية تلقي بتأثيراتها العميقة المباشرة وغير المباشرة على المتلقّي المستهدف. ونعني هنا الشعوب، وليس الأنظمة التي ترتبط عادة باتفاقات ومعاهدات تبعيّة مبتناة على حسابات مصلحية تتّصل بمواقع الحكم ومجالات السيطرة وعوامل النفوذ، وما أكثر نماذج هذه التبعية في العالمين العربي والإسلامي.
كما أنّ "الكلمة – المصطلح" لا تعبّر فقط عن خلفية المنابر الدعائية أو الشخصيات الموظّفة أو اتجاهاتها المحدّدة أو المستجدّة لتوجيه الرسائل السياسية المعلّبة، بل إنّها تعمل على خط موازٍ لإشاعة ظاهرة لغوية جديدة بالإفادة من خاصية كون المصطلح المفتاح الأكثر أهمية في تشكيل منظومة الأفكار. فإذا شاع هذا المصطلح الجديد، واشتهر وتكرّر على ألسنة المنابر الدعائية والشخصيات ووسائل الاتصال والتواصل، أصبح ذا معنى محدّد لا يندفع معه المتلقّي إلى البحث عن حقيقته أو حدوده أو جذره الأصلي، فيصبح الفلسطيني مسلّحًا والمقاوم ينقلب إلى إرهابي والعدوان يُعبّر عنه بـ"عملية عسكرية"، ولا تعود حرب الإبادة فعلًا شنيعًا بل فعلًا دفاعيًا و"عمليات احترازية" أو إجراءً استباقيًا مقبول المقدّمات، وتُقدّم التسوية على أنها حل سلمي وليس استسلامًا يحظر فيه حمل السلاح أو القيام بالثورة لتحرير الأرض واسترجاع الحقوق.
إنها الدعاية المباشرة، وليس "الإعلام الحرّ" الذي روّجت له الدول الصناعية الكبرى، فهي تعتمد إعلامًا مركزيًا موجّهًا يعتمد في مضامينه ورسائله وأفكاره وأساليبه على خلاصات دراسات وأبحاث تدّعي الاستقلالية والموضوعية، في حين هي تستبطن أفكارًا معدّة مسبقًا، ويُصنع لها قوالب مناسبة للتصدير والشيوع بما يقود إلى تحقيق الأهداف. ولعلّ أسلوب التعتيم والانتقاء وانعدام التكافؤ في صناعة الإعلام والدعاية والرأي العام، بين الغرب والشرق عمومًا، يسهم في نجاح هذه الدعاية بشكل كبير ومؤثر، فكيف لو تجنّدت وسائل الإعلام العربية الناطقة بلسان أنظمة التبعية من أجل خدمة هذه الأهداف؟! حينها سوف يكون الأثر أكبر وأخطر، ويترك تداعياته المباشرة على الجمهورين العربي والإسلامي.
هذا؛ وهناك نماذج كثيرة عن المصطلحات المحوّرة التي بتنا نسمعها كل يوم، ولا يقف أغلبنا عند خطورتها، فقد سبق أن شوّه مصطلح "الجهاد" عبر إلصاقه بفعل الحركات والمجموعات الإرهابية التي رفعت شعاره لتسويغ ارتكابات القتل الشنيعة التي يندى لها جبين الإنسانية بحق الأبرياء من المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، وكذلك في ابتداع مصطلح "الإسلام المعتدل" إزاء "الإسلام المتشدّد أو الأصولي" .. واليوم جاء دور مصطلح "المقاومة" ليُقدّم على أنه فعل مرفوض في سياق السعي الأمريكي – الترامبي لترويج مشروع "الديانة الإبراهيمية"، والذي يدعو للاجتماع تحت مظلة دين واحد، مع ما في ذلك من ضرب لأصل الدين والمعتقدات المختلفة.
إلى ذلك؛ وإسقاطًا على الواقع اللبناني، عشية تشكيل الحكومة العتيدة برئاسة المكلّف القاضي نواف سلام، ينبري "السياديون" وأتباع السفارات للمطالبة بعدم تضمين البيان الوزاري أي ذكر لمصطلح المقاومة. وبالتوازي يجترحون شعارات جديدة بديلة عن المثلث الذهبي "جيش – شعب – مقاومة" بمثلث آخر "جيش – شعب - دولة"، وكأن المقاومة فعل يناقض مفهوم الدولة، ويذهبون إلى تصوير المقاومة على أنها "لا تعبّر عن قناعتنا نحن اللبنانيين"؛ بحسب تعبيرهم، فهي التي "تحركشت" بـ"إسرائيل لتعتدي علينا"، وهكذا يصبح المقاومون الذين يدافعون عن حريتهم وعن أرضهم المحتلة ويناصرون الشعب الفلسطيني هم المعتدون، في حين أن "إسرائيل" مسالمة ولا تريد الحرب والعداون!! ويصبح "اللبنانيون" هم الذين يدعون إلى السلا،م بينما المقاومون ليسوا لبنانيين، ويتسببّون بالدمار للبنان.
إنه الخطاب الموجّه الذي يستهدف قلب الحقائق وتشويش أفهام الناس وعقولهم، ويستحضر الجزء الخبيث من صورة التسوية التي ينادي بها أصحاب الاعتدال في المنطقة. مع العلم بأن التجربة تؤكد أن التسوية، في ما لو أقرّت، لن تكون نهاية القضية بل بداية المشكلة؛ لأننا سنعاني من "إسرائيل" في السلم في ما لو حصل أكثر مما سنعاني منها في الحرب.. وذلك؛ لأنّ هذا الكيان العدواني يمعن في شرذمة المنطقة العربية والإسلامية من خلال اتجاهه للاستمرار في العدوان والتوسّع المتعدّد المجالات والاتجاهات في فلسطين ولبنان وسوريا ولاحقًا في العراق وغيره من الدول لفرض هيمنته الشاملة. ولذلك لا بد من إبقاء الزناد على السلاح العسكري كما على الزناد الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وغيره من الأسلحة لردّ العدوان، كيفما كان شكله وحجمه ومن حيث جاء.
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ (سورة إبراهيم / 24-27).
التضليل الإعلاميالضفة الغربيةالمقاومةوسائل الإعلامالجيش الاسرائيلي
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
25/01/2025
إشكالية المصطلح في حرب الدعاية على المقاومة
20/01/2025
هكذا تكلّمت "غزّة"...
20/01/2025
غزة انتصرت بمقاومتها وبدعم جبهات الإسناد
20/01/2025