نصر من الله

نقاط على الحروف

الجنوبيون يدخلون قراهم "بسلامٍ آمنين"
30/01/2025

الجنوبيون يدخلون قراهم "بسلامٍ آمنين"

تحتشد في سجل العز الجنوبي أحداث كثيرة تنتمي إلى حقبات زمنية مختلفة، جسد فيها أبناء جبل عاملة معنى الانتماء للأرض والوطن، وأعادوا بها كتابة التاريخ على نحو لا يقبل الانكسار، تاريخٌ عمّد بالدم ليبقى خالدًا خلود الأرض والزيتون. منذ أيام أعيد فتح كُتب التاريخ، لتتوّج بيوم آخر من أيام الله، يوم النصر الذي أدهش العالم من جديد، وسحق نظرياته الحديثة عن مفاهيم ثقافة الحياة والموت.

كتب الجنوبيون بلغة الدم والتضحيات نصرًا جديدًا، هبوا عند فجر السادس والعشرين من كانون الثاني للعودة إلى قراهم بعد أن نفدت أرواحهم صبرًا وفاضت قلوبهم شوقًا، ليثبتوا لمن راهن على عزمهم ومقاومتهم، أنهم أهل العزم والمقاومة، وباللحم الحي دحروا جنود العدو المدجّجين بالسلاح، مسجلين في كل بلدة من بلدات الحافة الأمامية مواقف مشرّفة وعزيزة كرّست ثقافة حب الحياة والنضال لأجلها.

كانت الساعة تشير إلى الخامسة والنصف فجرًا حين وصلت الحاجة الثمانينية "أم جواد" إلى مدخل قريتها البيّاضة الحدودية، منتظرةً وصول بقية أبناء البلدة  للدخول إليها. رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ وكبار السن، الجميع كان حاضرًا مندفعًا للعودة إلى البلدة التي لم يبق من بيوتها سوى بضعُ أثر.

أبهى مشهديات التضحية التي تشدّك في هذا اليوم، كانت لأم "الشهيد علي" التي احتضنت صورة شهيدها، وراحت تفتّش بين ركام أحد المنازل عن أثر له، الوالدة التي تعلو محيّاها ابتسامة رضى، تبادلك السلام والتهنئة بالنصر، وقبل السؤال تجيبك: "جئت أفتش عن ابني، مفقود الأثر علّني أجد بعضًا منه، والحمد لله رب العالمين."

في حيّ آخر من أحياء البلدة المدمّرة، جلس أبو حسن برفقة زوجته وأولاده وأحفاده بالقرب من ركام منزلهم، يحتسون القهوة ويدخّنون النرجيلة، الأطفال قربهم يلعبون ويقطفون الليمون عما تبقى من أشجار بستانهم بعد جرف جنود الاحتلال له."بلادك جنة لو كانت دمار" يقولها أبو حسن والفرحة في عينيه، ويضيف بتنهيدة حزينة " الله يرحم الشهدا، بفضل دمائهم رجعنا ع أرضنا.."

في أحد البيوت المواجهة لمنطقة اللبونة الحدودية في بلدة الناقورة، وقعت عينا سماح على إحدى الأوراق، عند دخولها لمنزل والديها للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب، وقبل الالتفات لأي شيء، فتحت الورقة وقرأت مضمونها. الرسالة كانت عبارة عن طلب مسامحة من أحد المجاهدين لاستخدامه بعض محتويات المنزل في أثناء إقامته فيه، لتنهار بعدها بالبكاء، بكاءٌ امتزجت فيه دموع الفرحة والعزة بدموع الألم والفقد بعد معرفتها بأن المجاهد الذي كان هنا، هو أحد أبناء بلدتها الذي ارتقى لاحقًا شهيدًا.

المشاهد عينها تتكرر في محطات جغرافية أخرى، وهذه المرة مواقف جسّدت الالتحام المباشر مع العدو الغادر. في مدينة بنت جبيل العصية على الانكسار، وقف أبناء البلدة في وجه جنود العدو على مسافة صفر،"ثابتين لا يهابون غدره ولا رصاصاته، ليعلم العدو أن هذه الأرض لا تهزم" تصف وفيقة حرب ابنة المدينة المشهد ومضمونه، وقد وحّدت بكلماتها رسالة أهل مدينتها:" البيوت بالنسبة لنا مجرد جدران، والدماء التي سالت على هذه الأرض هي فداءٌ لهذا الخط الجهادي، الأرض ليست مجرد مسكن، بل هي رمزٌ للكرامة والعزة."

مشهدٌ آخر بعينَي ابنة بنت جبيل، وهو مواقف أبناء الشهداء الذين حملوا صور آبائهم، ومعها صورة الشهيد الأقدس السيد حسن نصر الله، صرخاتهم القوية التي تردد صداها في قرى جبل عاملة كانت توجه للعدو ومعه العالم رسالةً ثابتة واضحة مفادها:" نحن هنا، ورثنا القوة والشجاعة وخط المقاومة عن آبائنا"، صرخات ممزوجة بالعبرات والقبضات.

موقف آخر يشدّ إدراكك لعظمة ما ترى. جموعٌ من المواطنين العائدين إلى قراهم، تجمعوا في أكثر من بلدة لإقامة صلاة الجماعة، فوق تراب الأرض الممزوج بالدم الطاهر، وبين ركام المنازل، غير آبهين بالعدو وطائراته ودباباته، بينما أقام آخرون مجالس اللطم والعزاء عن أرواح الشهداء الأبرار، في العديد من أماكن ارتقائهم أو عند أضرحتهم.

في أثناء زيارته لقرية عيترون، وقف كاظم بين جموع الأهالي الذين واجهوا جنود الاحتلال المختبئين خلف الساتر الترابي، كانت أنظاره تتوجه إلى الأهالي الذين يهتفون في وجه الجنود، وسرعان ما سمع طلقات رصاص كثيفة فوقهم، ظن كاظم للحظات أن المشهد سيتبدّل، والناس ستتراجع نحو مكان أكثر أمانًا، لكن الدهشة كانت أن أحدهم لم يتحرك متراجعًا، بل تعالت الصيحات والقبضات بنداءٍ مقدّس "لبيك يا نصر الله.."

لأن طينة الجنوبيات ممزوجة بحبّ الأرض وخيراتها، لم تفوّت الحاجّة أم نبيل فرصة البحث عن نبتة الشومر في الأراضي القريبة من قريتها شيحين، ومعها حشائش أخرى اعتاد الجنوبي على قطفها كـ "الهندباء" و"الحمّيضة" وغيرها، وسرعان ما انضمت إليها سيدات وبنات القرية لمشاركتها البحث والاحتكاك مجددًا بتراب الأرض وعطره النّدي.

كل زاوية من قرى الجنوب تحكي قصة مجد وعز، لا تخلوا الأحياء والبيوت والتلال والوديان والسهول من مواقف البطولة والشجاعة والحب والانتماء لهذه الأرض، فالجنوب هو الجنّة التي حُرّمت على الأعداء منذ قيام الكون، وستبقى كذلك حتى فنائه، أعاد أبناؤه كتابة التاريخ ورسم خرائط الجغرافيا ليثبتوا دائمًا، أن كل جهات الأرض؛ "جنوب".

الشهداءالمقاومةالجنوب

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة