معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

02/10/2019

"الاقتصاد الذي لا يقهر": بالونة وهم أو أسطورة تفوق؟

أحمد فؤاد
لستين يومًا، أو يزيد، عاش الكيان الصهيوني تحت وطأة ضغط عسكري، غير مسبوق، وعلى جبهتين، ثم لحقه مشهد سياسي أنتج "كنيست" يشبه ألعاب الكرسي الموسيقي، فلا فائز ولا مهزوم، ولا حكومة قادرة على الخروج أو تستطيع القيادة تلوح في الأفق القريب، وفوق كل هذا، هجرة عكسية للعقول الأكثر تميزًا في الكيان، وهي معطيات تؤشر -في أي تحليل منطقي- لأزمة اقتصادية هائلة، تلقي ظلالها على انهيار داخلي، أسرع كثيرًا مما هو متخيل.

ولتوضيح عمق الأزمة الآخذة بخناق الكيان، ربما من الأفضل الاستعانة بتقرير كاشف فاضح قاطع، نشرته "يديعوت أحرونوت"، في نهاية شهر آب/أغسطس الماضي، عن انعكاسات الاشتباكات في غزة على حياة سكان مغتصبات جنوب فلسطين المحتلة، وفيه قالت بالنص: إن " الفترة الماضية شهدت ارتفاعاً هائلاً بأعداد المستوطنين المتوجهين لمراكز الدعم النفسي في مستوطنات غلاف غزة، وإن 3381 مستوطناً جديداً توجهوا خلال الشهور الماضية لتلقي علاج نفسي، بسبب نقص في ساعات النوم، كذلك عدم الذهاب للعمل، إضافة إلى حالات القلق والتوتر التي تعاني منها معظم الحالات"، وأضافت الصحيفة: إن "الوضع الأمني الصعب في غلاف غزة يؤثر على المستوطنين هناك، خاصة مع حلول العام الدراسي الجديد حيث أعرب بعض المستوطنين عن قلقهم من إرسال أبنائهم للمدارس خشية وقوع تصعيد مفاجئ".

ومع رد حزب الله، في قلب فلسطين المحتلة، تنفيذًا لخطاب الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله بالرد على المسيّرات الصهيونية في الضاحية الجنوبية، فإن نصف فلسطين الشمالية، وصولًا إلى "تل أبيب"، قد دخل منطقيًا في حالة شلل كامل، لأيام أخرى، قبل أن يريح الأبطال المجاهدون القلوب والأرواح بعملية غير مسبوقة، أصابت العدو في قلب ما كان يعتبره الحصن والخط الأحمر، بنجاح كامل ومذهل، ضرب الرعب في قلوب الصهاينة وعقولهم، على السواء.

الغريب في القصة الصهيونية أنه لا أزمة ولا انعكاس لكل هذه السخونة على الوضع الاقتصادي

وبعد فقد العدو لقدرة الحسم العسكري، تمامًا، وضياع أساطير الرهبة والتأثير المعنوي لسلاحه وجيشه، إلى حد ابتلاع الضربة من حزب الله، دونما أية رغبة في مجرد الرد أو التصعيد الكلامي، خرجت الانتخابات العامة بلا حسم. ومع تمسك بنيامين نتنياهو بمقعد رئاسة الوزارة، خوفًا من السجن، وحقيقة أن تحالف بني غانتس هو الحاصل على العدد الأكبر من المقاعد، فإن الكيان كما فقد هيبته عسكريًا، أضاع أيضًا قدرته على توليد طبقة سياسية تستولد القادة والزعماء السياسيين، فلا شخصيات محورية في الكيان، ولا وجود للبطل على مسرح الأحداث. كل الأسماء هشة، يطاردها الفساد، أو تفتقد لجدارة الحكم وأهليته، وهي أيضًا تشكل أزمة وجودية مستقبلية للعدو، فالكيان قام بالسلاح، واستمر به، ويرتهن له تمامًا، وهناك أصلًا حدود لدور السلاح في الحرب -بمعناها الأوسع- فلا سلاح يستطيع تحقيق نصر والمحافظة عليه بدون سياسة مستولدة من رحم رؤية وإرادة، فما بالنا بدور السلاح في المجتمع والحياة اليومية؟

لكن الغريب في القصة الصهيونية، أنه لا أزمة ولا انعكاس لكل هذه السخونة على الوضع الاقتصادي، فالصادرات، خصوصًا العسكرية ومنتوجات التكنولوجيا الفائقة، تشهد استقرارًا، بل وتناميًا، كما توضح الأرقام المنشورة بالدوريات الصهيونية، والطلب السعودي على منظومات الحماية الصاروخية قد يحقق للكيان التخلص من ضغط الإنفاق المتزايد على التطوير والتصنيع، بدفع من الثروة الهائلة التي بات يملك مفاتحها بن سلمان، وينفقها أنى شاء، بلا شريك أو رقيب، وبالتأكيد بلا عقل أيضًا.

"النجار": اقتصاد تسليم مفتاح

في كتابه الأخير "الاقتصاد الصهيوني الغاصب والمهيمن.. والاقتصاد الفلسطيني الأسير" والصادر منتصف العام الحالي، يؤكد رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام السابق، الباحث الاقتصادي، الدكتور أحمد السيد النجار، أن الكيان الصهيوني شكل غير متكرر في التاريخ الإنساني المعروف، إذ إنه كيان "تسليم مفتاح"، أي جرى تجهيزه بإمكانيات البقاء قبل قيامه واغتصاب فلسطين، ويجري مده على الدوام بأسباب الاستمرار، وكتب النجار: إن القصة برمتها "مهداة إلى عبدة الكيان الصهيوني الذين يروجون بجهالة وبضمير خرب لمعجزة صهيونية مزيفة" ويقول إن "الحديث معجزة اقتصادية صهيونية هو مجرد تزييف فج للحقائق وترويج للأوهام السمجة"، وبالطبع ما أكثر الأبواق الإعلامية التي تروج للكيان وأسطورته الوهمية.

يغوص النجار خلال فصول الكتاب الأربعة في بحر من الأرقام، سعيًا لاستجلاء حقيقة الاقتصاد الصهيوني، وكسر سلسلة طويلة من الأكاذيب، جرى دسها وترويجها بين المجتمعات العربية، وعلى رأسها فرية أن الفلسطيني باع وطنه للصهاينة، فيقول إن: "الأتراك ورعايا الدول الأوربية كان لهم حق تملك الأراضي في البلدان الواقعة تحت الاحتلال العثماني، ومنذ العام 1876، مع تراجع الدولة العثمانية أمام القوى الأوروبية البازغة، ومع انتشار المرابين الأوربيين، وعلى رأسهم اليهود في البلدان العربية، ومع الظروف الاقتصادية بالغة الصعوبة كان رهن الأراضي الزراعية ثم الفشل في سداد الديون وبالتالي بيعها للأجانب قد شهد توسعا في ذلك الوقت. ولم تكن الأراضي في فلسطين بمعزل عن ذلك، بالإضافة إلى عمليات الإرهاب والاستهداف الصهيونية للمحاصيل، والتي كانت تسبب خسائر هائلة للمزارعين الفلسطينيين".

الفلسطيني لم يبع وطنه

ويقارن النجار بين وضع مصر وفلسطين، في الفترة ذاتها، حيث إن ملكيات الأجانب في مصر على سبيل المثال بلغت 713.1 ألف فدان، توازي 13% من إجمالي الأراضي الزراعية عام 1917، بما يوازي 3 ملايين دونم -وحدة لقياس مساحة الأرض في فلسطين- أما في فلسطين نفسها ففي تلك الفترة بلغت نسبة الأراضي المملوكة للأجانب 11% من إجمالي الأراضي الزراعية، وهي بالتأكيد نسبة أقل، وبالتالي تدحض تمامًا فرضية بيع الفلسطيني لأرضه.

وعن المساعدات الواردة للكيان الغاصب، يقول النجار إنها تأتي من مصادر ثلاثة، منذ مرحلة تأسيس الوجود، وحتى اليوم، وهي: الولايات المتحدة وألمانيا والدعم اليهودي العالمي، وبالتالي فإن أنبوب التغذية والتنفس يقع في الخارج، وبقطعه -لأي سبب- يفقد الكيان كل مسببات الوجود، فورًا، وهو أمر غير طبيعي أن تستمر دولة بتلك الطريقة، وبالتالي فإن الوصف بالكيان وليس الدولة هو صادق تمامًا من الناحية العلمية.

وعن أرقام المساعدات المالية، وضع النجار مقارنة بين مصر والكيان، لتبيان ضخامة المنح الغربية المستمرة، منها أن الكيان يتلقى سنويًا منحًا وتحويلات لا ترد تبلغ نحو 9 مليارات دولار، بينما مصر مثلا حصلت على قرض من صندوق النقد قيمة 12 مليار دولار، خلال 3 سنوات، بشروط مذلة، وفرض عليها قبول تدخلات لا تتوقف من مسؤولي الصندوق في سياساتها المالية والنقدية.

أرقام مهولة

ويقول إن مجموع المساعدات الخارجية التي تلقاها الكيان من المصادر الرئيسية الثلاثة الداعمة بلغ نحو 252.8 مليار دولار خلال الفترة من عام 1948 حتى عام 2018، ولو تلقت مصر على سبيل المثال مساعدات موازية لحجمها السكاني بالمقارنة بالحجم السكاني للكيان الصهيوني، فإنها كان يجب أن تتلقى نحو 3034 مليار دولار بالأسعار الجارية، ويضيف أن المقارنة تكشف الحجم الكبير للمساعدات الخارجية، والتي صنعته صنعا ككيان غاصب على أرض فلسطين العربية، وتكفلت بتطوير اقتصاده وتحويله إلى اقتصاد صناعي متقدم وغني، ورغم ذلك ما زال أكبر متلقٍّ للمنح الأمريكية حتى الآن، فضلا عن التحويلات الضخمة التي لا ترد، وتستمر في التزايد.

الكيان الصهيوني يتلقى مساعدات من مصادر أخرى غير المصادر الرئيسية الثلاثة

ويشير إلى أن المساعدات لو تم احتسابها بدولارات الوقت الراهن فإنها تعادل على الأقل نحو 1000 مليار دولار، ولو تلقت مصر ما يعادلها وفقا لحجمها السكاني فإنها كان يجب أن تتلقى نحو 12000 مليار دولار من دولارات الوقت الراهن.

ولو حصلت مصر حاليًا على منح سنوية معادلة لما يحصل عليه الكيان الصهيوني من الولايات المتحدة في الوقت الراهن، نحو 3,8 مليار دولار سنويا، مع وضع الحجم السكاني في الاعتبار (عدد سكان مصر 12 مثل عدد سكان الكيان الصهيوني)، فإنها يجب أن تحصل على 45,6 مليار دولار سنويا، وأظن أنها يمكن أن تفعل الأعاجيب بمثل تلك المساعدات المنتظمة أيا كانت كفاءة الحكومات التي تدير أمورها.

ويضيف أن الكيان الصهيوني يتلقى مساعدات من مصادر أخرى غير المصادر الرئيسية الثلاثة، وتلقى استثمارات أجنبية مباشرة بلغ رصيدها المتراكم حتى عام 2017 نحو 128,8 مليار دولار وغالبيتها في صناعات عالية التقنية ومحكومة باعتبارات سياسية بالأساس بما يجعلها نوعا من الدعم البنيوي للكيان الصهيوني واقتصاده.


"أبو النمل": كيان هش

وفي كتابه "الاقتصاد الإسرائيلي"، يقول الباحث والكاتب الفلسطيني حسين أبو النمل، إن الكيان الهش يعتمد تمامًا على 4 مصادر للمعونات والمنح، توفر على الدوام القدرة على الاستمرار، بلا أي إنجاز أو تطور، فضلًا عن كذبة التفوق الصهيوني، ويضيف إن الحديث بشيء من التفصيل عن بند واحد فقط وهو التعويضات الألمانية، كافٍ للكشف عن مدى الهشاشة الذاتية لهذا الكيان، الذي يفغر الليبراليون العرب أفواههم أمام عظمته المتخيلة في أدمغتهم فقط متصورين أن سر هزيمتنا أمامه هو تفوقه الذاتي.

وبحسب أبو النمل، يحصل الكيان الصهيوني على المعونات والمنح من أربعة مصادر، وهي: التعويضات الألمانية، مساندة منظمات اليهودية العالمية، رعاية السوق الأوربية المشتركة، الولايات المتحدة الأميركية، التي تعد الضامن الأساس والرئيس لبقاء الكيان.

ويضيف إن اتفاقية التعويضات الألمانية الأولى، وقعت عام 1952، وبلغت قيمتها 846 مليون دولار تُدفَع على مدار 12 عام بدءاً من 1953. وكانت الاتفاقية تنص على ألا يتسلم كيان الاحتلال هذه المبالغ نقدًا، بل بشكل سلع رأسمالية ألمانية وأجنبية. وأشارت المصادر الألمانية ومنها كتاب "طريق ألمانيا إلى إسرائيل" لرودولف فوجيل، إلى: "أنّ ألفي مشروع صناعي من الحجم المتوسط حصلت على الآلات من الشحنات التي وردت بموجب الاتفاق، وليس من المبالغة القول في وصف تلك الشحنات بأنها كانت تشكل عنصراً أساسياً واضحاً ودائماً في بناء الصناعة في الكيان".

قفزة صناعية مستوردة

وارتفع نتيجة لذلك عدد المنشآت الصناعية في الكيان بين عامي 55 - 65 وهي سنة نهاية فترة التعويضات الأولى إلى الضعف تقريباً، من 7502 منشأة إلى 15458 منشأة، هذا البرنامج التصنيعي الشامل أعطى الكيان طابع القوة الصناعية وكان ثمرة برنامج التعويضات الألمانية بامتياز.

وليتضح مدى تأثير هذه التعويضات على التنمية تكفي الإشارة إلى أن الناتج المحلي الصهيوني قد حقق نتيجة سلبية عام 53 وهو العام الذي بدأ في نصفه الثاني تدفق التعويضات، ثم ارتفع واستمر في الارتفاع طوال مدة برنامج التعويضات وحقق معدلات نمو كالتالي: 9.19% عام 1954، ثم 9.13% في 1955، و2.9% في 1956، ثم 6.8% عام 1957، و7.7% في 1958، و7.12 سنة 1959، و6.6% في 1960، و2.1% في 1961، ثم 1.1% في 1962، و4.11% في 1963، ثم 8.9% في 1964، و1.9 في 1965. ليهبط بعدها فجأة إلى 0.8% فقط عام 1966 وهو العام التالي لتوقف التعويضات.

ويشير "أبو النمل" إلى أن برنامج التعويضات الألمانية لم يتوقف إلا عام 1965، وهناك اتفاقية تعويضات أخرى وقعت عام 1953 واستمرت على الأقل حتى عام 2002، ونتج عن الطفرة الصناعية في الحقبة المذكورة أعلاه أزمة فيض إنتاج وطاقة إنتاجية عاطلة عام 1966 طرحت بالضرورة الحاجة الماسة إلى توسيع السوق لاستمرار النمو. وجميعنا نعلم كيف وسع الصهاينة سوقهم في العام التالي مباشرة أي 1967.

ويخرج الكاتب بنتيجة مفادها أن العرب لا يواجهون في صراعهم مع الكيان الصهيوني مجرد كيان احتلال، حتى وإن كان مكروسكوبي الحجم ممزق مجتمعيًا ضعيف القدرات، بل أداة من أدوات منظومة النهب الإمبريالي العالمية. نحن ضعفاء نعم ولكن نواجه في نفس الوقت منظومة جبارة متوحشة تتجاوز الصهيوني الذي يصر البعض عن جهالة وعقد نقص على ترسيخ صورة أنه الكائن المتفوق، أو الأسطورة الذي لا يقهر.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات