معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

روسيا العائدة من البوابة السورية: قوة إقليمية ودولية
28/10/2019

روسيا العائدة من البوابة السورية: قوة إقليمية ودولية

سركيس أبوزيد

الانسحاب الأميركي من سوريا لم يكن جزئيًا ومقتصرًا على نقاط حدودية إفساحًا في المجال أمام الدخول التركي ومن دون الاصطدام معه، وإنما كان انسحابًا شاملًا من كل النقاط والقواعد العسكرية المنتشرة في شمال شرقي سوريا، وبما يعني أن الوجود الأميركي بات مركزا في جنوب سوريا، وخصوصًا في قاعدة التنف على مقربة من الحدود السورية العراقية. وھذا الانسحاب العسكري يعني انسحابًا سياسيًا من سوريا وتسليمھا مع الحل السياسي للأزمة الى روسيا التي تدير لعبة المصالح الإقليمية بين تركيا وإيران و"إسرائيل"، وتبحث عن طريقة لإيجاد مقعد للاعب العربي على الطاولة بعد عودة سوريا الى الجامعة العربية التي لم تعد إلا مسألة وقت.

الانسحاب الذي قرره ترامب، وأيده فيه البنتاغون الذي يقف على رأسه وزير حرب جديد موالٍ تماما للرئيس، لم يمر في واشنطن مرور الكرام، وإنما قوبل بعاصفة انتقادات وبقرار من الكونغرس يدين خطوة ترامب، حتى من نواب حزبه الجمھوري. وھذا القرار يدين خطوة ترامب باعتبار أنھا تمثل "خيانة لحلفائنا وتشجيعا لخصومنا وتقويضا لأمننا" على حد تعبير زعيم الغالبية الديمقراطية في الكونغرس. ولكن قرار الكونغرس بإدانة قرار الانسحاب، بات شكليا ومعنويا بعدما قطعت عملية الانسحاب وتفكيك المواقع وتدميرھا شوطا كبيرا، وصار الانسحاب الشامل أمرا واقعا.

وفيما يخص تركيا، فإن أردوغان ليس "طليق اليدين" في عمليته العسكرية في سوريا، وإنما ھو مقيّد بتعھدات أعطاھا الى ترامب مثل عدم اقتحام مدينة كوباني (عين العرب) الكردية، ومقيّد بالخطوط التي رسمتھا روسيا للعملية العسكرية وأعطت الضوء الأخضر على أساسھا، وھذه الخطوط ھي نتاج تفاھمات روسية – أميركية، وروسية - تركية، وتفاھمات روسية - سورية بدا أنھا الأھم. فإذا كانت موسكو ھي المستفيدة الأولى من الانسحاب الأميركي، فإن دمشق ھي المستفيدة الأولى من الھجوم التركي.

في المقابل، رعت روسيا تفاھمات بين دمشق والأكراد، أدت الى توسيع مساحة انتشار الجيش السوري في المناطق الحدودية ودخوله مناطق للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، وخصوصا مدينتي منبج وعين العرب في ريف حلب الشمالي على الحدود مع تركيا. وھذه خطوة عسكرية مھمة تسمح له بمتابعة الانتشار على شريط حدودي طويل يمتد من عين العرب (كوباني) الى المالكية في أقصى الشمال الشرقي. كما تعني إنھاء رمزية نھر الفرات كخط فاصل بين مناطق سيطرة الجيش السوري والوحدات الكردية. ھذا الاتفاق الميداني بين دمشق والأكراد وبموجبه دخل الجيش السوري الى الحسكة والقامشلي، من المفترض أنه يمھد الطريق أمام اتفاق سياسي يعطي الأكراد وضعا مميّزا ويضمن حقوقھم، ولكنه بالتأكيد لن يكون وضعا في شمال سوريا مشابھا ومماثلا للوضع الكردي القائم في شمال العراق.

ومؤخراً، عُقدت قمة روسية - تركية في سوتشي، تركزت المحادثات فيھا بين بوتين وأردوغان على ثلاثة ملفات رئيسية تشمل:

- تعزيز التنسيق الأمني العسكري لمنع فرار آلاف المعتقلين من تنظيم "داعش" في المنطقة الشمالية.
- آلية دفع حوار سياسي مباشر بين أنقرة ودمشق.
- تسريع إنھاء العملية العسكرية التركية بھدف عدم التأثير على إطلاق عمل اللجنة الدستورية السورية.

بدا واضحا أن ھناك رغبة روسية في تسريع إنھاء العمليات العسكرية وعدم توسيع رقعتھا، بالتوازي مع تنشيط التحرك لشغل الفراغ الذي أحدثه الانسحاب الأميركي من مناطق الشمال، بشكل يدعم العملية السياسية لاحقا، وأنھا ترى في "اتفاق أضنة" الموقّع بين دمشق وأنقرة في عام 1998 أساسا قانونيا صالحا للتفاوض حول الترتيبات في المنطقة الحدودية، هذه الاتفاقية التي قضت بإخراج عبد الله أوجلان من سوريا والتعاون لملاحقة حزب "العمال الكردستاني"، واليوم مع "اتفاق سوتشي" يكون الأكراد الحلقة الأضعف وكبش المحرقة، فشهر تشرين الأول سيدخل في التاريخ الكردي الحديث على أنه شھر التخلي عن الأكراد والإطاحة بتطلعاتھم وطموحاتھم.

فمصلحة روسيا تكمن في التوصل إلى تسوية للأزمة السورية تقوم على أسس راسخة، وذلك ببناء ھيكل للسلطة يرتكز على قاعدة واسعة تمثل مصالح الطيف العريض للقوى السياسية، بما فيھا مصالح الأكثرية السنيّة، كذلك، فإن من مصلحة روسيا أن تستعيد سوريا علاقاتھا ليس فقط مع محيطھا، بل ومع العالم الخارجي ككل، وأن تستند التسوية إلى توافق دولي يعترف بشرعية النظام السوري.

وبعد مرور أربعة أعوام على الوجود الروسي في سوريا، نجد أن كل الأھداف التي وضعتها موسكو قد تحققت تقريبا، وقد بذلت روسيا كدولة ضامنة في إطار "مسار آستانة" كل جھدھا من أجل الوصول إلى ھذه النتيجة من خلال الاتصالات النشطة مع الحكومة السورية وأطراف المعارضة، ما أعاد الحرارة إلى العملية السياسية والمتابعة الدولية لھا، لأنھا ستشكل بداية مسار سياسي للخروج من الأزمة نحو الحل.

أما على المستوى الإقليمي، فقد ساھم الوجود العسكري في سوريا بتعزيز مسار الانفتاح الإقليمي على موسكو، باعتبار أنه لا بديل عن التفاھم مع موسكو على الترتيبات اللاحقة في سوريا والمنطقة، ما يعزز تدخلھا في عدد من الأزمات الإقليمية بفضل التجربة السورية. ومع ھذا الانفتاح الإقليمي، تبدو موسكو واثقة من ترسيخ المبدأ الأساسي الذي عملت لتكريسه، وفقا لمقولة "لا تسوية لأي مشكلة إقليمية أو دولية من دون دور روسي". ومع توسعة قاعدتي "حميميم" و"طرطوس" والاتفاقات المبرمة للبقاء العسكري 49 سنة، حققت روسيا حضورا قويا في شرق المتوسط.

باختصار، روسيا التي خرجت من الشرق الأوسط بعد انھيار الإتحاد السوفياتي، عادت إلى ھذه المنطقة المھمة استراتيجيا بالنسبة إليھا، والتي يرتبط أمنھا باستقرار الشرق الأوسط وأمنه. وبرزت كمركز قوة قادرة على مواجھة الھيمنة الأميركية في العالم ككل. فھي حققت جميع الأھداف العسكرية في سوريا، وهي تؤكد أنھا عادت إلى سوريا لتبقى لزمن طويل، والدليل، توسيع قاعدتي "حميميم" و"طرطوس" الضروريتين لتنفيذ مھمات الطيران والأسطول الحربي في البحر المتوسط وإفريقيا وأميركا اللاتينية. وھاتان القاعدتان تشكلان أداة مھمة لروسيا التي تطمح لامتلاك كلمة جدية في السياسة الدولية. وبعد التعاطي مع روسيا كقوة إقليمية كبرى، عادت لتكون شريكة في معالجة الأزمات الدولية، ولم يعد أي طرف قادرا على الادعاء أنه يستطيع دفع تسوية ما من دونھا.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل