آراء وتحليلات
لبنان الراهن.. بين أزمة المواطنة وطائفية الخطاب
علي ابراهيم مطر*
نعاني في لبنان من أزمة مركبة متشعبة، كثيرة التعقيدات، على كافة الصعد والمستويات المتداخلة بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لم يكد اللبنانيون يظهرون فرحهم، من صورة الوحدة العابرة للطوائف، لاستعادة شيء من المواطنية التي أصبحت مفقودة، من خلال مشاهد الانتفاضة على الفساد، لترميم البنية الاجتماعية واستخدامها في مواجهة الأزمة الاقتصادية، حتى تمت مصادرة الفرحة، عبر إعادة النفخ في تلك الأزمات مجتمعة، نتيجة دخول أحزاب سياسية الى الحراك نخرها الفساد وتاريخ القتل على الهوية، في محاولة لانتهاز الفرص وتحقيق مصالح سياسية.
تحولت الأزمة في لبنان إلى أزمة سياسية، بعد أن كانت عبارة عن حراك بدأه الفقراء، بهدف الثورة على معاناتهم مع السلطة السياسية والمالية في لبنان. لكن ظهر أولئك الذين سرقوا نبض الشارع بتحويله إلى عصا لهم، يستخدمونه من أجل مأربهم، فحولوا الأزمة من مطالب محقة يريدها شعب سئم من خضوعه، يريد بناء مستقبل شبابه وأولاده، إلى أزمة سياسية جديدة متعددة الأطراف داخلياً وإقليمياً ودولياً.
خلال ثلاثة أيام كان كل لبنان ينظر إلى دولة المواطنة، دولة يجتمع أبناؤها تحت سقف العيش المتبادل، بعيداً عن العصب الطائفي والمناطقي، نعني بها تلك القائمة على المواطنة، يتطلعون إلى دولة يعيش فيها جميع أبنائها بالمساواة في الحقوق والواجبات. هذه الدولة يكون أصل تأسيسها وعقدها الاجتماعي قائماً على الاحترام والثقة المتبادلة ما بين السلطة والشعب. انتفض الشعب حينها من بين ركامه ليعيد بناء هذه الدولة، التي يتمتع الفرد فيها بعضوية بلده بشكلها الصحيح، ويستحق بذلك ما ترتبه تلك العضوية من امتيازات. الدولة النموذج التي يستحقها اللبنانيون، قائمة على المساواة والعدل؛ عن طريق تعزيز هذا البناء المواطني، وتعزيز الشّفافية في بناء وتطور الدولة وذلك بإشراك المواطنين بالحكم وضمان حقوقهم وواجباتهم بشكل جدي.
إلا أنَّ ممارسة حقوق المواطنة تبقى عملية غير مكتملة الأركان ومحفوفة بمخاطر التراجع عنها والاعتداء عليها دون رسوخ ثقافة المواطنة في الوعي الاجتماعي العام؛ فعملية بناء هذا الوعي العام تتطلب هي الأخرى بناء قواعد قانونية تضمن حقوق المواطنة السياسية والقانونية إلى جانب نشر ثقافة المواطنة. هنا ايضاً يأتي دور وسائل الإعلام والمؤسسات لتعزيز هذه المواطنة لا لشلها، واستخدامها خطابًا يثير النعرات الطائفية بين المواطنين. فالفهم المعاصر للمواطنيّة يتجاوز الحالة القانونيّة البحتة، ليعني انخراط المواطن في مجتمع معيّن، بحيث يسهّل له هذا الانتماء التمتّع بفوائد الحياة المجتمعيّة، والتمتّع بالحقوق الشخصيّة تجاه الدولة كما تجاه غيره من المواطنين، وهذا أمر مهم جداً لنا في لبنان، على الرغم من أننا لم نشكل نظاماً سياسياً قادراً على مواجهة التحديات الكبرى، حيث إن النظام لم يكن نتيجة اختيارنا، بل فرض علينا وكرس ما يريده الغرب لنا من تعايش على التناقضات.
ومع ذلك، كانت الفرصة سانحة لتغيير ما، عبر ترك الشعب يعبر عما يكتنفه من تطلعات، لولا سرقة صوته من أولئك الانتهازيين والوصوليين الذين كان همهم فقط تحقيق مصالحهم الانفة على حساب هذا الشعب، فأخذوا الحراك إلى مكان آخر يظنون أنه يحقق لهم أمجادًا سياسية، ويعيد ترميم قواهم المترنحة عبر استغلال صوت الشعب. مذاك انتهى الحراك، وبدا أشبه بمواجهة مع عهد الرئيس ميشال عون تريدها قوى سياسية لديها أجندات خارجية، أعادت إلى الأذهان مأساة عاناها اللبنانيون في التاريخ القريب، فسقط معها حلم الشعب بالوصول في دولته إلى نموذج يرقى إلى نماذج حقيقية في الحكم والسياسة والاقتصاد والبناء الاجتماعي المحافظ على العيش المشترك.
يؤلمنا جميعًا، ذهاب الحراك اليوم للأسف إلى مكان آخر، وتحويله من قبل البعض إلى أزمة سياسية عميقة، تحاول معها أصوات وأقلام مأجورة تظهير الحدث وكأنه خلاف طائفي على خلفية استقالة الرئيس الحريري وضرورة إعادة تكليفه بالتشكيل، علمًا أنه منذ البداية دعت القوى السياسية في الثنائي الشيعي وقصر بعبدا وحلفاؤه ومؤيدوه، وفي مقدمة الجميع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، إلى ضرورة الحفاظ على الحكومة الحالية لمنع الفراغ والفوضى في البلاد، والتي بدأت تظهر تباعاً، تارةً عبر شد العصب الطائفي والمناطقي من قبل وسائل إعلام الحراك، وأخرى عبر مسارعة الحريري لاستقالة فاقمت من حدة الأزمة بدلاً من حلها.
بعد استقالة الحريري، بدأت تخرج أصوات اعتادت على استثمار الخطاب الذي يفرق اللبنانيين، تعمل على إظهار الأزمة وكأنها تحدٍ وإقصاء للحريري، علمًا أن فريق السلطة لم يرد استقالته، ولم يتحدث أحد منه بعد عن إقصائه وعدم تكليفه، إلا أن البعض بدأ يستعجل تحرك الشارع وتخويفه من استهداف قد يحصل "لزعيم المستقبل" الذي قد يكون قد شارك في لعبة الحراك السياسية، والقول إن هناك استهدافًا بعدم تكليفه للطائفة السنية الكريمة قوام ذلك استهداف صلاحيات رئيس الحكومة، علمًا أن أحدًا من الفريق الآخر لم يحمل هذا الخطاب.
لم تتورع وسائل الإعلام عن تحويل الحدث من مجرد حراك إلى أزمة سياسية تعصف بلبنان، تبنى على خطاب الكراهية والرؤى الإقليمية والدولية، مستخدمة في ذلك شعارات في ظاهرها تؤيد الحراك وفي باطنها توتر الشارع، متناسيةً أن التفاوض على الحكم لا يكون في الطرقات، فلا يمكن الوصول إلى حلول تبني الدولة وتحميها، عبر الضغط واستثمار صوت الشارع، لذلك يجب التنبه إلى هذا الخطاب البغيض، الذي يتقاطع مع برامج معدة مسبقًا تثير الريبة، تعمل على أخذ لبنان نحو الفوضى، وهذا ما يجعلنا نتأسف لأن الشعب الذي سئم المعاناة، من السياسات الحكومية المتعاقبة وإرثها الفاسد، تمت مصادرة صوته الحقيقي وتاه في براثن اولئك الذين أفسدوا الدولة وبدأوا يحاضرون بالعفة.
*دكتور بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024