معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

الهندسة المالية تأخذ النظام الرأسمالي العالمي الى الاحتضار
05/11/2019

الهندسة المالية تأخذ النظام الرأسمالي العالمي الى الاحتضار

 جورج حداد*

ما يحدث الآن في لبنان هو صورة مصغرة عما يحدث في العالم، من حيث اعتماد سياسة الهندسة المالية بوصفها السياسة المثلى لادارة الاقتصاد العالمي. وللإضاءة على الهندسة المالية لا بد اولًا من العودة قليلًا الى الوراء لنبش جذور هذه الهندسة: في السنوات 1929 ـ 1933 انفجرت في الولايات المتحدة الازمة الاقتصادية الكبرى التي انعكست على العالم كله، وذلك بفضل النظام الاحتكاري الرأسمالي العالمي، الذي ادى الى تكدس الاموال في جانب، وتكدس السلع في مستودعاتها في جانب آخر، وتكدس الناس (المستهلكين) العاجزين عن الشراء في جانب ثالث. وقد ادت تلك الازمة الكبرى الى افلاس ألوف الشركات الكبرى والمتوسطة والى سحق المؤسسات الصغرى. وانتشر الانتحار، بالمعنى الحرفي للكلمة، في صفوف رجال الاعمال الكبار انفسهم، الذين افلست مؤسساتهم، بسبب العجز عن دفع الديون وعدم التصريف. ويقول غالبية الخبراء الاقتصاديين ان ازمة 1929 ـ 1933 تكمن في اساس الحرب العالمية الثانية. وحتى ذلك التاريخ (1933) كان يتم التداول في اميركا بالدولار الذهبي، او الدولار الورقي (البنكنوت) المغطى تماما بالذهب المكدس في البنك المركزي. اي كان بإمكان حامل الدولار الورقي ان يستبدله بالدولار الذهبي في اي لحظة، اي ان الدولار كان يحمل قيمته بذاته (كسلعة ذهبية) يمكن مبادلتها بأي سلعة اخرى. ويعني ذلك ان المعاملات السوقية كانت تتم على قاعدة التبادل بين سلع متكافئة: البنكنوت (المغطى بالذهب) او الدولار الذهبي بسلعة اخرى مكافئة له. ولم يكن بامكان البنك المركزي (او الدولة) اصدار بنكنوت ورقي او سندات، دون تغطية بالذهب. كما كانت الفائدة البنكية (المربحة) تتراوح بين سعر كلفة السلعة المعينة وبين المعدل الوسطي لربح السلعة او المعدل الوسطي للربح العام. وهذا يعني ان البنكنوت الورقي والفائدة البنكية كانا مرتبطين بالانتاج الفعلي، وبالاقتصاد الواقعي والنفقات العامة الواقعية وعائداتها، وبقانون العرض والطلب ضمن هذه القواعد الاقتصادية الفعلية. ولم يكن البنكنوت والفائدة مرتبطين بسياسة هندسة مالية كيفية ووهمية لا علاقة لها بالانتاج.

وفي 1933 وتحت ضغط ظروف الازمة، اعلن الرئيس الاميركي الاشهر فرانكلين روزفلت قرارا بفصل الدولار البنكنوت عن التغطية الذهبية الالزامية، وإلزام المواطنين الذين يملكون الدولار الذهبي بتسليمه للدولة واخذ دولار بنكنوت بدلا عنه، واعتبار التغطية الذهبية للدولار مسألة "ثقة" بالدولة الاميركية. ووضع عهد روزفلت القواعد الاولى لسياسة الهندسة المالية المتحررة من الارتباط بالقاعدة الذهبية وبالاقتصاد الواقعي والانتاج الفعلي. واطلق يد البنك المركزي في منح القروض بفوائد مخفضة جدا للبنوك الاخرى والجهات التي يريدها البنك المركزي، كما منح البنك المركزي حق طباعة العملة الورقية والسندات بدون تغطية ذهبية. وقد ساعدت تلك التدابير الاستثنائية "ما فوق الاقتصادية" او "ما دون الاقتصادية" على الخروج من ازمة 1929 ـ 1933. واستمر تطبيق سياسة الهندسة المالية هذه حتى سنة 1934، حيث اعيد مبدأ التبادل الى العمل، واعيدت التغطية الذهبية للدولار.

وفي اواخر سنة 1944، عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية، عقد ـ بدعوة من الولايات المتحدة الاميركية ـ مؤتمر "بريتون وودز" الذي حضره رؤساء وممثلو 40 دولة من كافة ارجاء العالم، وجرى توقيع "اتفاقية بريتون وودز" التي تعترف بالدولار بوصفه العملة الدولية الوحيدة بدون تغطية ذهبية، مقابل وعد ـ ثقة من قبل الحكومة الاميركية بتقييم اونصة الذهب بـ 35 دولارا ورقيا اميركيا، وكل دولة تريد استبدال دولاراتها الورقية فإن الدولة الاميركية تمنحها ذهبا بالقيمة المتفق عليها (1 اونصة ذهب = 35 دولارا ورقييا) او سلعا بالقيمة ذاتها. وبناء على ذلك تم في 1945 انشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وبدأت اميركا تطبع كميات هائلة من الدولارات الورقية بدون تغطية ذهبية، وتقديم القروض لجميع دول الكتلة الغربية التي اصبحت مرتبطة بالدولار وتابعة اقتصاديا لاميركا، التي بدأت في تطبيق سياسة الهندسة المالية على العالم الغربي بأسره. وأدت هذه السياسة الى اعادة اعمار اوروبا المهدمة بنتيجة الحرب العالمية الثانية والى الانتفاخ الاقتصادي لبعض الدول والمناطق كهونغ كونغ واليابان وكوريا الجنوبية، وطبعا الى عملقة الاقتصاد الاميركي، وذلك على حساب نهب وافقار وتجويع غالبية بلدان آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية. ولكن هذه السياسة الاقتصادية (الهندسة المالية) وُوجهت بسياسة اقتصادية معاكسة تماما، اي بسياسة الاقتصاد الانتاجي الفعلي، من قبل روسيا والصين وايران الثوررة وغيرها من الدول "المارقة" والمحايدة. ومقابل سياسة التضخم الاميركية والغربية اصبحت السلع الصينية الرخيصة تزاحم السلع الغربية جميعا في داخل بلدانها بالذات بما في ذلك داخل اميركا ذاتها. وهكذا بدأ السحر ينقلب على الساحر، وبدأت اميركا والدول الغربية وجميع الدول المرتبطة بها تعاني من الاثار المدمرة لسياسة الهندسة المالية. ومع ذلك فإن الدول الغربية لا تزال تصر على انتهاج تلك السياسة. وفي الشهر الماضي قرر البنك المركزي الاوروبي تخفيض الفائدة الاساسية الى 0،4% اي حوالى الصفر كتمهيد من اجل طباعة كميات اضافية من اليورو، وتسريع الدورة المالية عن طريق زيادة التضخم. وفي اميركا فإن النصير الاكبر لتخفيض الفائدة الاساسية هو دونالد ترامب نفسه الذي هدد بطرد مدير البنك المركزي الاميركي اذا لم يخفض الفائدة الاساسية ادنى مما هي في اوروبا.

ان هذه السياسة الخرقاء تؤدي الى زيادة التضخم ورفع الاسعار وتقليص فرص العمل وزيادة البطالة وضرب قطاع الخدمات العامة كالتعليم والصحة ونظام المعاشات التقاعدية الخ. مما يدفع الجماهير الشعبية الى التحرك ضد هذه السياسة. وفي الاشهر القليلة الماضية نزلت "السترات الصفراء" الى الشوارع في باريس وغيرها من المدن الفرنسية وغير الفرنسية، مما اضطر الحكومة الفرنسية لاتخاذ بعض الخطوات التخديرية الموقتة. ويرى بعض المراقبين ان اوروبا واميركا اصبحتا على قاب قوسين او ادنى من انفجار ازمة مالية ـ اقتصادية اشد بكثير من ازمة سنة 2008، ولا يوجد اي ضمانات حينذاك من ان تنزل الى الشارع لا "السترات الصفراء" (المدنية) فقط، بل و"السترات السوداء" (الفاشية الجديدة) و"الخضراء" (انصار البيئة) و"الزهرية" (الاشتراكية) وحتى "الحمراء" (الشيوعية).  

*كاتب لبناني مستقل

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل