معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

وعد
06/11/2019

وعد "بلفور" الثاني وقضية الغاز المصري

ايهاب شوقي

تمر هذا الأسبوع ذكرى الوعد البريطاني المشؤوم لوزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفور، بتاريخ 2 نوفمبر 1917 إلى والتر دي روتشيلد، في ظل سباق سرعة من الأنظمة العربية المنضوية تحت المظلة الأميركية للحاق بالركب الصهيوني، وتخلًّ كامل عن كل ما يعتبر شرفًا أو كرامة. لم يعد مهمًا قيمة ما يجري التنازل عنه - في غباء وعناد شديدين - المهم أن مظلة الرضى الأميركي قائمة وممدودة فوق رؤوس الحكام.

في مصر، السباقة إلى معاهدات السلام المرّ مع الكيان، برعاية واشنطن، جرت أحدث جولات الصفقات الرخيصة الخاسرة، والتراجع الاعتيادي المساوم المستمر، بتذليل آخر عقبة أمام استيراد الغاز العربي المسروق، من حقلي "تمار" و"ليفياثان"، بالمنطقة البحرية المقابلة لساحل فلسطين المحتلة، وبيع خط الغاز الواصل من مصر لفلسطين إلى 3 شركات تمثل دول "كامب دايفيد"، إلى شركة ديليك للحفر (صهيونية)، وشركة نوبل إنرجي (أميركية)، وشركة غاز الشرق (يمتلكها جهاز المخابرات المصري).

الصفقة هي الأضخم للكيان على الإطلاق، بعائد يقترب من العشرين مليار دولار، ولمدة طويلة جدًا، 15 عامًا، حيث أزال الكيان الصهيوني -وللعجب- آخر اعتراض على إتمام تنفيذ اتفاق سبق توقيعه بالقاهرة، نهاية العام الماضي، إذ كانت هيئة "منع الاحتكار" بكيان العدو هي عقبة تفعيل العقود الموقعة.

ببساطة ووضوح، ومن إعلانات الأطراف الرئيسة في "صفقة العار الجديدة"، فإن الكيان يتدلل حتى حين تمتد اليد العربية إليه، متنازلة متراجعة، قابلة لكل شروط الاستسلام النهائي والكامل.

نعود إلى بداية القصة، مشروع إمداد مصر بالغاز الطبيعي الفلسطيني، أو الصهيوني المسروق كما الأرض. كانت مصر في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك تصدر الغاز الطبيعي للكيان الصهيوني، بأسعار تقل عن ربع الأسعار العالمية، وبعقد طويل لم يتضمن حق مصر في تعديل الأسعار. اعتبرها صدفة أو صفقة بيع وقحة، فهذا ما حدث، وأدى لاستنزاف هائل في موارد مصر المحدودة جدًا من الغاز، وبالتالي تحولت من مصدر إلى مستورد، وتوقفت عن الالتزام بالعقد.

ذهب الصهاينة فورًا إلى التحكيم الدولي، وبصيغة حملت مصر كل الالتزامات، خسرت مصر القضية، وباتت مجبرة على دفع 1.76 مليار دولار، كغرامة أقرها التحكيم الدولي ضد شركات إيجاس والهيئة المصرية العامة للبترول وغاز شرق المتوسط، بسبب فشلها في تزويد شركة الكهرباء الصهيونية بالغاز بدءًا من عام 2012، بجانب قضية أخرى من شركة "بي تي تي" التايلاندية التي تطالب بمليار دولار من مصر، نتيجة للعقد سيئ السمعة ذاته.

فجأة خرج الرئيس المصري، وأعلن في أحد مؤتمراته الشبابية، أن مصر "جابت جون" أحرزت هدفًا، في ملف الغاز الطبيعي، وهو ما اتضح بسرعة أنه اتفاقية جديدة تصبح مصر فيها مستوردًا للغاز الطبيعي من الكيان الصهيوني، لتلبية احتياجات السوق المحلية الآخذة في التزايد.
هذا الاتفاق ينسف كل ما جرى ويجري ترويجه من إنجازات هائلة في مجال استكشاف حقول جديدة. تسطع فجأة فلاشات التصوير، يفتتح الرئيس شيئاً ما، يقول إعلامه إنه أضخم حقل غاز أو بترول، ثم في آخر النهار إذا بنا أمام دولة تستورد الغاز من ألد أعدائها.

وجاء إعلان قرب تشغيل الخط، من خلال بورصة "تل أبيب"، التي أصدرت بيانًا كشفت خلاله عن استكمال سيطرة منتجي الغاز الصهاينة على الحصة الحاكمة في خط أنابيب شرق المتوسط "عسقلان - العريش"، إلى شركة ديليك للحفر الصهيونية وشركة نوبل إنرجي الأميركية، وشركة غاز الشرق المصرية، بما يعني بدء توريد الغاز إلى مصر في إطار الاتفاقية الموقعة في شباط/فبراير 2018، بين نوبل وديليك الشريكتين في حقلي تمار وليفايثان الصهيوني، وبين شركة دولفينوس القابضة المصرية المملوكة لرجل الأعمال علاء عرفة، بقيمة مبدئية 15 مليار دولار، ارتفعت الشهر الماضي إلى 19.5 مليار دولار بعد تعديل الاتفاق لزيادة الإمدادات بنسبة 30%.

علاء عرفة هو الواجهة المصرية هذه المرة، بعد موت حسين سالم، الذي تولى اتفاقيات الغاز مع الصهاينة في عهد مبارك، وهو ناشط في مجال التعاون الاقتصادي مع الكيان الصهيوني، من بوابة اتفاقية "الكويز" المتعلقة بتعاون مصري صهيوني في صناعة النسيج مقابل إعفاء من الضرائب للسوق الأميركية.

وفي مقابل تخفيض قيمة الغرامات الموقعة على مصر من 1.76 مليار دولار إلى 470 مليون دولار، جرى التخلي عن كل منطق، وإعادة التعامل مع العدو، تحت مظلة ما يسمى "المصلحة المشتركة". بالتأكيد هناك مصلحة تدفع نظام الحكم، وكل نظام حكم منذ "كامب دافيد" للتعامل مع الصهاينة، لكن بالطبع فإنها مصلحة تعني الإفقار والكوارث للشعب المصري، وتبديدًا لثرواته، وفتحًا أكثر لكل قلاعه أمام قاتليه، ومجانًا.

أمام كل حديث مصري، يصدر من مسؤول أو وزير، أو حتى الرئيس، عن تحول مصر لمركز إقليمي للغاز الطبيعي، تقف الأرقام وحدها على الضفة الأخرى شاهدة على الكذب والخيانة، فأي كميات إضافية سيتم استيرادها، حتى بعد تعديل الاتفاقية الشهر الماضي، ستوجه لتلبية الطلب المحلي المتزايد على الغاز، والذي من المتوقع أن يرتفع بنسبة 30% على مدى العقدين المقبلين، مع توقعات بحدوث نقص في الإنتاج خلال خمس سنوات فقط، من الحقول التي لا يراها ولا يؤمن بها إلا كهنة الفرعون وحاشيته.

 

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات