معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

تظاهرات لبنان بين العفوية والتسييس: فن صياغة الشعارات (2)
12/11/2019

تظاهرات لبنان بين العفوية والتسييس: فن صياغة الشعارات (2)

محمد محمود مرتضى

في هذه الورقة المكونة من أجزاء عدة سنحاول تجميع قدر مقبول ومعقول من الاشارات والعلامات التي تثبت أن ما يجري من حراك في الشارع اللبناني قد تجاوز حدود "العفوية"، ليدرج تحت عنوان: التوجيه والتحكم بالحراك. على أن كلامنا هذا لا يعني أن كل من نزل أو ينزل الى الساحات يعمل وفق أجندة أجنبية (أمريكية أو سعودية أو اماراتية)، وانما نقصد أن ثمة جهات خلف الستار تحرك الجموع بطريقة مباشرة للبعض، وغير مباشرة لآخرين.

ترتكز الثورات، وغالبًا ما يتوقف عامل نجاحها، على ثلاثة عناصر أساسية: الفكرة الابداعية، النخب التنظيمية، والوعي الجماهيري. و"الثورات" العفوية كثيرا ما تخفق بسبب عدم وجود هذه العناصر الثلاثة. الا أن ذلك لا يعني النجاح المؤكد للثورات التي تملك هذه العناصر، وان كانت احتمالات نجاحها كبيرة، لكنها تبقى خاضعة لعوامل أخرى طارئة تتعلق بطبيعة المواجهة، والخطوات التي تتخذها السلطة الحاكمة، وبالتالي طبيعة التحرك التالي من قبل "الثورة" والتعامل مع التحديات المستجدة.

في الشروط المذكورة نجد أن العنصر الاول هو الفكرة الابداعية. ونعني بالفكرة الابداعية  تلك الفكرة التي ينبغي أن تصاغ كعامل مؤثر وفاعل للفعل الثوري. وغالبًا ما يتم تجسيد تلك الفكرة بالشعارات التي تطلقها "الثورة". فالشعارات تمثل العنصر المكثف الذي يلخص أهداف "الثورة" وطموحات "الثوار".

لا تقتصر "الثورات" عادة على شعار واحد، بل تسعى لتوزيع أهدفها بشعارات فرعية تمثل جزئيات المطالب، لكن يبقى أن ثمة شعارًا أساسيًا يمثل قلب "الثورة" وغاياتها القصوى، وجوهر الحراك.

يحتاج صياغة الشعار الرئيسي الى مهارات خاصة لا تتوافر في العادة عند القيادات المباشرة للعمل الشعبي، وهي تحتاج الى صياغة تشتمل على  ثلاثة عناصر رئيسية:

الاول: وضوح "الايحاء" ونعني به أنه رغم ضبابية الشعار فإنه لا يخلو من ايحاء مباشر.

الثاني: "مرونة التطبيق العشوائي". ونعني به أن أي شخص يمكن له أن يطبقه على من يشاء حسب توجهاته.

الثالث: "انسيابية الانحياز". ونعني به أنه عند فشل التظاهر فمن السهولة الانسحاب من مضمون الشعار بدعوى أنه كان يقصد به هذا وليس ذاك.

ولو عدنا الى الحراك الذي يجري في الشارع اللبناني لوجدنا أن الشعار الذي تم التسويق له منذ البداية هو: "كلن يعني كلن". وعند التأمل فيه سنجد أنه يستوفي هذه العناصر.
فـ"كلن يعني كلن": من المفترض، بحسب السياق المنطقي المنسجم مع الشرارة التي اشعلت الشارع، أن تعني كل الفاسدين أو الذين شاركوا بالفساد، الا أن طبيعة الشعار واخفاء المعنى المتضمن فيه جعلته يتمتع بطبيعة انسيابية تحمل كل التأويلات والتفسيرات.

هذه الطبيعية الانسيابية والتحويلية للشعار جعلت:

"كلن يعني كلن" تشمل التصويب على الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عند البعض وان اعترف الجميع بنظافة كفه وعظمة تضحياته. و"كلن يعني كلن" يمكن أن تطلقها بعض جماعة المجتمع المدني ممن عاش في كنف الحريرية السياسية والقوات اللبنانية وجمع ملايين الدولارات، لكنه يعتبر نفسه ليس من ضمن "كلن" لانه لم يكن في السلطة بشكل مباشر.
و"كلن يعني كلن" يمكن أن تطلقها القنوات التلفزيونية المشبوهة والمعروفة بانتمائها ومصدر تمويلها، وهي لم تغب يوما عن الصفقات. لكنها تعتبر الشعار لا يشملها.

و"كلن يعني كلن" يمكن أن تستفيد منه ايضا الاحزاب، التي شاركت طوال السنوات الماضية في عمليات النهب، في عملية تلميع صورتها، فتعترف بالفساد في سبيل تخفيف الاحتجاج، لكنها تقول لسنا وحدنا من قام بذلك.
و"كلن يعني كلن"، شعار يستفيد منه ايضاً المنتمي المتعصب لحزبه أو زعيمه، والذي يريد أن يخفي تعصبه فلا يقبل ان يُستهدف زعيمه، فيختبئ خلف الشعار ليصوب على زعيم أو حزب آخر.
فقط الشعب المقهور والمنهوب يستعملها ببراءة وبمعناها الحقيقي.
فهل يمكن الاقتناع أن شعارا يتمتع بكل هذه الانسيابية والسيولة يمكن أن يكون نتيجة تأليف وابداعات عفوية؟

لقراءة المقال السابق: التظاهرات في لبنان بين العفوية والتسييس.. راقبوا الاعلام (1)

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات