آراء وتحليلات
فتور كبير في العلاقات الاميركية ـ الالمانية
صوفيا ـ جورج حداد
بالرغم من جميع الضغوطات السياسية الاميركية الشديدة التي تعرضت ولا تزال تتعرض لها، اصرت المانيا على التمسك بتنفيذ مشروع مد انبوب الغاز الروسي المسمى "السيل الشمالي" الذي يمتد من مكامن الغاز الروسي في سيبيريا وغيرها، عبر بحر البلطيق، وصولا الى الاراضي الالمانية، والذي طرح بشدة خصوصا بعد الازمة الاوكرانية سنة 2014 وتعطل امكانية نقل الغاز الروسي الى اوروبا عبر الاراضي الاوكرانية.
باشر انبوب الغاز "السيل الشمالي ـ 1" بضخ الغاز الى المانيا منذ اكثر من سنة. وتساهم شركة غازبروم الروسية بنسبة 51% من الشركة التي تستثمر هذا الخط. ويرأس مجلس المساهمين في الشركة المستشار الالماني السابق غيرهارد شرويدر. ويلبي هذا الخط الحاجات الداخلية لالمانيا، كما تقوم المانيا بتصدير كميات من الغاز الروسي الى النمسا وغيرها من دول اوروبا الغربية. ويجري الان العمل لمد خط ثان للانبوب سمي "السيل الشمالي ـ 2" وفي مطلع هذه السنة كان مد الانابيب قد تجاوز الاراضي الروسية وبدأ العمل في اعماق بحر البلطيق. وقريبا جدا سيصل الانبوب الى الاراضي الالمانية في الشمال.
بدأ الحديث منذ الان عن مد انبوب "السيل الشمالي ـ 3" و"4"، نظرا لكثافة الطلبيات من شتى بلدان اوروبا الوسطى والغربية. والسبب الرئيسي لامتناع المانيا عن إلغاء التعاون مع روسيا في حقل الغاز، هو ان اسعار الغاز التي كانت تعرضها اميركا على المانيا كانت اعلى بكثير من اسعار الغاز الروسي. اذ ان كلفة استخراج الـ1000 متر مكعب من الغاز المسال في اميركا كانت تبلغ 150 دولارا في حين ان كلفة استخراج الكمية ذاتها كانت تكلف روسيا 15 دولارا فقط. وهذا عدا اجرة النقل المرتفعة بصهاريج الغاز من اميركا الى اوروبا. وهكذا لم يكن بامكان اسعار الغاز الاميركي ان تنافس اسعار الغاز الروسي حتى لو باعت اميركا غازها بسعر الكلفة او ادنى. ومن المتوقع ان تصبح المانيا في السنوات القريبة القادمة اكبر مساهم وموزع للغاز الروسي، واكبر شريك تجاري لروسيا في اوروبا.
وفي ظل هذا التطور الواقع والمتوقع تمر العلاقات الاميركية ـ الالمانية في مرحلة من الفتور الكبير لم يسبق لها مثيل. وقد كتب الصحفي الالماني شتيفان كورنيلوس مقالا في الجريدة البافارية Die Sueddeutsche Zeitung وصف فيه العلاقات الاميركية ـ الالمانية بأنها اشبه شيء بـ"سلام بارد" (قياسا على تعبير "الحرب الباردة".
ويقول الكاتب "ان برلين تدرك ان اليد الطولى لاميركا لم تعد مفيدة لالمانيا. وان المانيا تجد نفسها في وضعية الدولة المسبوقة التي تريد اللحاق بالركب. ان
ومؤخرا قام وزير الخارجية الاميركية مارك بومبيو بزيارة الى المانيا بمناسبة الذكرى الثلاثين لازالة جدار برلين. ولم تحظ الزيارة بالاهتمام الكافي من قبل الجانب الالماني، وهي عكست "الانزعاج المتبادل" لدى الجانبين. واستغل بومبيو المناسبة للقيام بزيارة الاماكن التي سبق ان وجد فيها حينما كان ملازما في قوات المشاة الاميركية التي كانت توجد في المانيا بموجب "نظام الاحتلال الاميركي لالمانيا" بعد الحرب العالمية الثانية. اي ان حضوره الى المانيا كان اشبه بالحضور للتسلية في مدينة ملاه. اما العالم الواقعي فبقي خارجا.
ومسائل التوتر العالقة بين اميركا ترامب والمانيا تبقى هي ذاتها: انبوب الغاز "السيل الشمالي ـ 2"، عدم التساوي في الميزان التجاري بين البلدين، والنفقات العسكرية.
وتحرص كل من الدولتين على عدم تصعيد التوتر فيما بينهما. فحكومة ميركيل لا تسعى الى نزاع مكشوف مع اميركا، معتبرة ان هذا لن يحل المشكلات القائمة، في حين ان ادارة ترامب تتجنب الوقوع في نزاعات كبيرة قد تؤدي الى الخروج من حلف الناتو، او الى نشوب صراع واسع النطاق حول الرسوم الجمركية الاميركية.
وتدرك المانيا بشكل متزايد ان اميركا لن تلعب بعد الان الدور الذي كانت تلعبه حتى الان في تحديد الوجود السياسي لالمانيا. ومؤخرا فإن انغريت كرامب ـ كارينباور (وزيرة الدفاع السابقة لالمانيا وخليفة انجيلا ميركيل في قيادة الحزب الدمقراطي المسيحي) تقدمت باقتراح حول سوريا، يخالف النهج الاميركي، واعتبر بعض المحللين الاسترايجيين هذا الاقتراح بانه يمثل "شرارة وعي استراتيجي" نادرا ما نلاحظه في المانيا.
ان اميركا تحتفظ بدورها كقوة عظمى في اوروبا، حتى في حالة التباعد معها. ولكن الزيارة الاخيرة لبومبيو جاءت لتؤكد "ان اليد الطولى لاميركا لم تعد تعمل لصالح المانيا". ولكن اميركا تبقى محتفظة بدورها بوصفها عاملا كبيرا في تقرير النهج السياسي العريض لاوروبا.
وفي هذه الظروف المعقدة، على المانيا ان تقيّم تماما قدراتها على التأثير في مجريات الاحداث. وحتى هذه اللحظة فإن المانيا لا تستطيع ان تنتهج سياسة خارجية منفصلة عن اميركا، سواء في افغانستان، او الشرق الاوسط، او حتى في البلدان المجاورة والحليفة لها، كدول البلطيق السوفياتية السابقة، التي تمر انابيب الغاز الروسي بجانبها.
كما انه لا يمكن تصور سياسة خارجية لالمانيا ضد اميركا، او حتى محايدة بين القطبين الاميركي والصيني. وهذا يعني ان المانيا عليها ان توضح لنفسها الكثير من القضايا القائمة، بمعزل عن السياسة الاميركية.
ان الفتور الكبير في العلاقات الاميركية ـ الالمانية هو احد مظاهر التفكك التدريجي للكتلة الغربية التي كانت تلتف حول الولايات المتحدة الاميركية، وعاجلا ام آجلا سيؤدي الى التباعد بين اميركا والمانيا، والتقارب المصلحي ـ البراغماتي التجاري والاقتصادي والاستراتيجي بين المانيا وروسيا، وتفكك الاتحاد الاوروبي، والتباعد بين اميركا والبلدان الاوروبية ككل.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024