معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

19/11/2019

"ربيع الأميركان" في لبنان.. ونصر الله

صوفيا ـ جورج حداد

في 17 تشرين الأول/ اكتوبر 2019 وصلت موجة "الربيع العربي" المشؤوم الى لبنان. ففي مساء ذلك اليوم عمت المظاهرات الاحتجاجية الشعبية جميع المدن اللبنانية، للاحتجاج على الاوضاع المعيشية السيئة من غلاء وبطالة وفقر وفرض ضرائب جديدة على المواطنين وتقليص تقديمات الضمان الاجتماعي والمعاشات التقاعدية وغيرها من المطالب الشعبية المشروعة. وكانت الشرارة التي اطلقت موجة الاحتجاجات اعلان وزير الاعلام "المستقبلي!" جمال الجراح عن ان الوزارة قررت فرض ضريبة على خدمة "الواتس أب" المجانية في الهواتف المنقولة. وتبين لاحقا ان الوزارة لم تكن قد وافقت على اي قرار من هذا النوع، بل ان هذه الضريبة كانت اقتراحا تقدم به وزير الاتصالات "المستقبلي ايضا!" محمد شقير ولكن الوزارة لم توافق عليه. وهنا تبرز علامة استفهام حول السبب الذي دفع الوزير جمال الجراح لطرح اعلانه الاستفزازي حول قرار لم يتخذ، وهل كانت هذه اشارة انطلاق لموجة الاحتجاجات؟

اتخذت الاحتجاجات طابع انتفاضة شعبية سلمية اطلقت عليها اعلاميا تسمية "الحراك الشعبي". وفي الـ3 ـ 4 ايام الاولى من "الحراك" اقتصرت الشعارات المرفوعة على طرح صور المعاناة الشعبية من الاوضاع المعيشية السيئة والاحتجاج على فرض الضرائب على المواطنين الفقراء وذوي الدخل المحدود وتقليص المكتسبات الشعبية وخصوصا المعاشات التقاعدية. وحافظت المظاهرات على طابعها السلمي. وردا على سياسة حل الازمة الاقتصادية والاجتماعية عن طريق "مد اليد على جيوب الفقراء وذوي الدخل المحدود" اي زيادة إفقار الشعب، طرحت بشدة شعارات مكافحة الفساد واعادة الاموال المنهوبة لخزينة الدولة. وحازت هذه الشعارات على شعبية كبيرة، وأيدتها اعلاميا جميع القوى والاحزاب السياسية الممثلة في وزارة "الوفاق الوطني" برئاسة سعد الحريري. واعلن حزب "القوات اللبنانية" بزعامة سمير جعجع الاستقالة من الحكومة والتضامن مع "الحراك الشعبي". واصدر رئيس الوزراء سعد الحريري "ورقة اصلاحية" من بنود عديدة تحتاج الى دراسة اختصاصيين واتخاذ قرارات في مجلس الوزراء واصدار قوانين في مجلس النواب. وقبل ان يحدث اي شيء من ذلك اعلن الحريري استقالته من الحكومة بطريقة مسرحية توحي بأنه يريد الاصلاح، ولكن يده مغلولة، بما يوحي ان الذي يعرقل الاصلاحات والمسؤول عن الفساد والاوضاع السيئة في البلاد هو الفريق الذي لا يزال في الحكم، اي فريق رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر وحليفه فريق الثنائي الشيعي: حزب الله وحركة امل.

وفي الليلة ذاتها التي اعلن فيها سعد الحريري استقالته، نزلت مظاهرات احتجاجية "غير سلمية" وبدأ قطع الطرقات على المواطنين واستفزاز قوى الامن وخاصة الجيش في محاولة مكشوفة: سياسيا لتحميل مسؤولية تدهور وضع البلد للفرقاء غير سعد الحريري و"القوات اللبنانية"، وأمنيا: لدفع الاحداث باتجاه المصادمات المسلحة وتعميم الفوضى تماما كما جرى سابقا في سوريا.

لا شك ان المطالب المعيشية والاجتماعية التي طرحها "الحراك الشعبي" هي محقة 100%. ولكن الاحداث بدأت تنحو منحى آخر وتهدف الى اهداف اخرى لا علاقة لها بالمطالب الشعبية الحقيقية، اي بدأت تتجه موضوعيا وذاتيا نحو تبرئة المسؤولين التاريخيين عن تدهور الاوضاع الاجتماعية في لبنان، ورمي هذه المسؤولية على المقاومة وحلفائها. وبالتالي جر قطاع واسع من الجماهير الشعبية اللبنانية، بوعي او بدون وعي منها، الى الحرب الاهلية والى الاصطدام بالجيش اللبناني وتفكيكه، ومن ثم الاصطدام بالمقاومة، وتبرير التدخل العسكري الاجنبي في لبنان، تحت البند السابع لميثاق الامم المتحدة او اي ذريعة "سلمية" او "انسانية" اخرى كما جرى في سوريا وليبيا.

وهذا ما يدفع الى التفكير بجدية في ان ما يجري الان في لبنان هو نسخة مشابهة في الجوهر، ومعدلة في التفاصيل، للسيناريو الاميركي الذي جرى تطبيقه في سوريا:

ـ في البدء تنزل المظاهرات السلمية والتي ترفع شعارات اصلاحية وديمقراطية. ثم يبدأ استفزاز القوى الامنية لجرها الى استخدام العنف. وبعد ان تسيل الدماء، يبدأ تدخل قوات المعارضة "المسلحة" الجاهزة سلفا، اولا بحجة الدفاع عن النفس، واخيرا بدون اي حجة كانت.

وكل عدة تنفيذ هذا السيناريو في لبنان هي جاهزة وتحت الطلب، اكثر مما كانت جاهزة سلفا في سوريا. ويمكن الاشارة الى النقاط التالية:

ـ1ـ ان "اللحديين" هم تحت الطلب في "اسرائيل". وزيارة العميل عامر فاخوري الى لبنان، عشية انطلاقة "الربيع العربي" فيه، ليست صدفة. وليس من الضرورة ان يدخل اللحديون الى لبنان من الجنوب، بل يمكنهم الدخول من اي منطقة بما في ذلك من مطار رفيق الحريري الدولي، وبمعية امنية، كما دخل العميل عامر الفاخوري. وبالاضافة الى اللحديين هناك الجنود والضباط العرب في الجيش الاسرائيلي (دروز، بدو ومرتزقة آخرون).

ـ2ــ ان عناصر "فتح الاسلام" الذين قتلوا 200 جندي وضابط لبنانيين في مخيم نهر البارد، وحماتهم الذين اغتالوا العميد الشهيد فرانسوا الحاج، هؤلاء وأولئك، واشباههم من التكفيريين، لم يتبخروا ولم يذهبوا الى المريخ، بل لا زالوا داخل لبنان يتسترون بالمخيمات الفلسطينية وغيرها، ولا يزالون موجودين "تحت الطلب" في اي لحظة.

ـ3ـ اذا ذهب اي كان الى اي مخيم فلسطيني في لبنان، يجد ان غالبية "الحضور" هم من الشبان والكهول العاطلين عن العمل. اما اذا ذهب اي كان الى اي مخيم للنازحين السوريين، يجد ان اغلبية "الحضور" هم من النساء والاطفال والعجزة وقلة قليلة من الشبان والكهول. فأين ذهب "رجال" المخيمات السورية؟ لا شك ان قسما كبيرا منهم يذهب لاصطياد اي فرصة عمل على الاراضي اللبنانية لاجل إعالة عائلته، وقسما آخر هاجر للعمل في الخارج. الا ان قسما لا يستهان به منهم هم مقاتلون في "داعش" و"النصرة" واضرابهما، ولا يزالون "في الخدمة" الفعلية في شمال سوريا، ويمكن ان ينتقلوا الى لبنان "بفركة كعب".

ـ4ـ يوجد عشرات آلاف المقاتلين التكفيريين الاجانب (من الشيشان وداغستان وتتارستان وغيرها من المناطق الاسلامية ذات الحكم الذاتي في الفيديرالية الروسية، ومن الجمهوريات الاسلامية السوفياتية السابقة، ومن منطقة الحكم الذاتي الاسلامية في الصين)، الذين تقطعت بهم السبل بعد فشل "ربيعهم العربي" في سوريا، وقد خسروا كل شيء حتى عائلاتهم الصغيرة (زوجاتهم واطفالهم) ولا يستطيعون العودة الى بلدانهم لان اهلهم تخلوا عنهم ولا ينتظرهم هناك سوى الاعدامات والسجون ومعسكرات الاشغال الشاقة. وقد تحول هؤلاء، بفعل غسل ادمغتهم بالاضاليل الدينية واوضاعهم الميؤوس منها التي لا يحسدون عليها، الى مشاريع جزارين مهووسين حاقدين على الجنس البشري بأسره ومستعدين لارتكاب ابشع المجازر. وقد نسقت وتنسق المخابرات الاميركية والتركية والاسرائيلية والسعودية لتجميع هؤلاء في معسكرات مغلقة في "اسرائيل" وتركيا والقسم التركي من قبرص، من اجل استخدامهم في اي "ربيع عربي جديد" خصوصا في "بلد جميل" وصغير كلبنان فيه عدد كبير من الكفار المسيحيين والشيعة والدروز المرشحين للذبح، وشواطئه مليئة بالنفط والغاز...

ولكن جاهزية عدة تنفيذ سيناريو "الربيع العربي" الاميركي في لبنان لا تعني مطلقا امكانية نجاحه. فدروس "الربيع العربي" في سوريا، لا تزال ماثلة امامنا ولم تدخل بعد في طيات التاريخ، وخصوصا لجهة الغباء المطلق للمعارضة اليسارية والليبرالية السورية التي اضطلعت بنجاح منقطع النظير بدور الغطاء السياسي وحتى الطائفي للموجة الداعشية (ونذكر للمثال انه حينما كان الدواعش يقتحمون معلولا بأديريتها وكنائسها ويأخذون الراهبات رهائن، كان "الشيوعي ـ المسيحي" المعارض جورج صبرا يتشدق امام الشاشات الخليجية بأنه لا يوجد طائفية في سوريا!).

ويقتضينا الواقع هنا ان نشير الى نقطة في غاية الاهمية وهي:

ـ من اجل تمرير السيناريو كان من الضروري لاصحابه اخفاء الايادي التي تتلاعب بالشارع وتحاول اخذه الى المجهول تمهيدا لنزول "القوات المسلحة التآمرية" وكأنها جزء عفوي من الشارع. ولهذه الغاية جرى، بنجاح نسبي ولكن كبير، تمرير خطة "تجهيل" القوى المحركة للشارع، بحيث صار من الصعب التمييز بين القوى المتآمرة والقوى الشعبية المناضلة والشريفة. فالجميع صار يمر تحت العلم اللبناني الواحد. ولكن العلم اللبناني في يد "اصدقاء عامر الفاخوري وسمير جعجع وفؤاد السنيورة" هو شيء، والعلم اللبناني في يد الشيوعيين وانصار المقاومة هو شيء آخر تماما.

فلأجل فضح وعزل وتصفية زمر وعصابات المؤامرة الجديدة على لبنان والشعب اللبناني، ينبغي للقوى الوطنية والاسلامية والتقدمية الشريفة المشاركة في "الحراك الشعبي" سواء أكانت احزابا وتنظيمات قديمة او جديدة، كبيرة ام صغيرة، ان تكشف عن وجهها، وترفع شعاراتها وصور رموزها التاريخية والحالية: ارفعوا صور غيفارا وكاسترو وانطون سعادة وفرج الله الحلو وكمال جنبلاط والامام موسى الصدر، وسهى بشارة وحبيب الشرتوني وجورج ابرهيم عبد الله وظافر الخطيب ومرشد شبو، وصور عماد مغنية وشهداء المقاومة الوطنية والاسلامية، وارفعوا صور ميشال عون وخصوصا صور سماحة السيد حسن نصر الله الذي هو بمثابة الفارس المكلل بالظفر الذي يطعن التنين ويقتله، ويخلص بيروت ولبنان من "ربيع الاميركان"!
(*)  كاتب لبناني مستقل

أحداث تشرين أول 2019

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل