آراء وتحليلات
ماكينزي والخراب الاقتصادي (2-2)
أحمد فؤاد
الزمان: الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 2016.
المكان: مصر
الحدث: قرار الحكومة المصرية تحرير سعر صرف الجنيه، ما سيعرف فيما بعد بكارثة "التعويم".
أطاع مسؤولو الحكومة المصرية تعليمات صندوق النقد الدولي، ومضوا إلى النهاية في تطبيق وصفة الإصلاح الاقتصادي، مدفوعين بقرض هائل بلغ 12.5 مليار دولار، مقسم على 3 سنوات، تصرف منه الشرائح بمقدار التزام النظام بتطبيق كل ما ورد فيها.
في ليلة واحدة سوداء، لم يظهر صبحها حتى اليوم، أطاح قرار حكومي غبي بنصف المداخيل الحقيقية للمصريين، وخفض مدخراتهم للنصف أيضًا، وتركهم تحت رحمة موجات تضخم متتالية، وصلت خلال العامين التاليين للتعويم إلى نحو 32%، وهي نسبة لم تحدث حتى خلال الحرب العالمية الثانية، التي كانت صحراء مصر الغربية شاهدة على واحدة من معاركها الكبرى.
أسهم القرار في زيادة نسب الفقراء. النسب الجديدة قدرها تقرير البنك الدولي الخاص بمصر، والصادر منتصف العام الحالي بنحو 60% من السكان إما فقراء أو شديدو الحاجة، بينما حاول تقرير حكومي متسرع أعقبه مداراة المصيبة، فأعلن أن النسبة هي فقط 32.5% من السكان، ارتفاعًا من 27% قبلها بعامين، و6.5% هي نسبة الفقر المدقع بين المصريين، أولئك ممن يتعذر عليهم إيجاد القوت الضروري اللازم للبقاء على قيد الحياة.
الأرقام المصرية المتحققة من وراء ما يسمى "إصلاح اقتصادي" يتأتّى بالعرق والدم، ويصب في جيوب طبقة جديدة من أثرياء الدولة، لا مثيل لها ولا شبيه، الدين العام الخارجي ارتفع لنحو ثلاثة أضعاف، من نحو 44 مليار دولار إلى 108.7 مليار دولار، بنهاية يونيو 2019، ارتفاعًا من 95,6 مليار دولار بنهاية يونيو 2018، أي بنسبة 17% خلال عام واحد، وبما يفوق تعهدات الحكومة للصندوق، والتي بالكاد بلغت 102 مليار دولار، بالإضافة لدين داخلي يقدر بـ 256.2 مليار دولار، في نهاية مارس/آذار الماضي، بنسبة ارتفاع 20% على أساس سنوي.
الديون المتعاظمة لا تدخل البلد بهدف الإنتاج أو التصنيع أو إقامة مشروعات حقيقية. الواضح من مسلسل الديون أنها تسدد ديونًا سابقة، ثم تذهب لمشروعات عجائبية، شبكة طرق تنهار أمام قطرات المطر، وسكك حديدية لا يمر عام دون كارثة جديدة بها تحصد أرواح عشرات المصريين، وعاصمة جديدة لا تجد من يسكنها إلا الأشباح، ومسجد ضخم في الصحراء لا يعرف له المصلون طريقًا.
لا أحد يعلم، كما لا أحد يعلم كيف فرض صندوق النقد شرط تعويم الجنيه، ونفذت الحكومة، ثم خرج كريس جارفيس رئيس بعثة الصندوق السابق إلى مصر ونفض يده ببساطة، وقال إن الصندوق لم يكن يتوقع التراجع المروع في قيمة الجنيه أمام الدولار. الرجل لم يكن يتوقع والحكومة لم تكن تدري، بالنهاية دفع الشعب الثمن كله، من قوته ومستقبله، ولن يحاسب أحد.
المبكي في حكاية التعويم، أن مجلة "فوربس" الاقتصادية، والمعنية بإصدار تقارير الثروات حول العالم، كشفت في عام 2017، التالي للتعويم، عن زيادة ثروات كبار رجال الأعمال المصريين، وارتفاعها المذهل، وتساءلت المجلة عن السبب في الارتفاع المفاجئ، بينما تراجعت دخول أغلبية المصريين في هذا العام.
وتكتمل الخيبات المصرية مع مؤسسات السيطرة العالمية، بإعلان رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، التعاقد مع شركة "ماكينزي"، من بوابة إعادة هيكلة الوزارات والمصالح الحكومية، والتي يقول صندوق النقد الدولي إنها متضخمة أكثر من اللازم، فأطاعت الحكومة مرة أخرى جديدة، واستقدمت الشركة الأميركية سيئة السمعة للقيام بالمهمة اللازمة.
رئيس الوزراء قال، في تصريحات صحفية، إن عدد موظفي الدولة يتجاوز 5 ملايين، والمطلوب منهم 40 % فقط لأداء مهامهم، والملاحظ في مصر أن قطاعي الصحة والتعليم - على سبيل المثال لا الحصر - يعانيان من نقص حاد في شاغلي الوظائف، وبالطبع فإن تأثير غياب المدرس والطبيب والممرض على المواطن مرعبة. فهل تفضل سيادته بطرح رؤية للنسبة التي رآها واقعية، أم كان يردد ما ألقاه على مسامعه مسؤولو الشركة الأميركية؟ وهل حسبت الحكومة التكلفة الاجتماعية المرعبة للتخلص من ملايين الموظفين، وكلهم مرتبطون بأسر كاملة، ترتبط معيشتها براتب الموظف أو العامل؟ لا يهم هذا، المهم رضا الصندوق وماكينزي.
الحكومة تنوي تخفيض عدد موظفيها، في إطار رؤية أشمل، يستحسن وضعها تحت لافتة "انسحاب". فتقزيم دور الدولة داخل حدودها، وشل يدها، هدف مطلوب من الغرب، بحيث يصبح دورها المستقبلي مجرد مستشارية تتولى تنفيذ أوامر الشركات متعددة الجنسيات، وتضمن فقط أمنها وأرباحها، وديمومة فتح أسواقها أمام المنتجات الغربية.
وكما كانت التصريحات الحكومية، وقت إعلان التعويم، بأنه لن يؤدى إلى المزيد من ارتفاع الأسعار، إلا أن أسعار السلع الأساسية وعلى رأسها الأدوية والمواد الغذائية ومستلزمات الإنتاج والوقود كانت تحتسب على أساس سعر الصرف الرسمي، والذي قفز في ليلة واحدة من 8.8 جنيه إلى ما يقرب من 18 جنيها، واستقر خلال الشهور الماضية فقط حول 16 جنيهًا، فالتصريحات الآن تؤكد وتكاد تقسم أن الهيكلة لن تذهب إلى طرد الموظفين من أعمالهم، وأنها لصالح صغارهم.
الأكثر رعبًا أن الشركة الأميركية لم تحقق نجاحًا يذكر في أية عملية هيكلة أو تخطيط أسندت إليها من قبل دول، بل وشركات أيضًا، فقد أدت لإفلاس شركات ضخمة، مثل: الخطوط الجوية السويسرية، شركة إنرون عملاق الطاقة، ثم بنك مورجان، وفشلت في التعامل مع الأزمة الاقتصادية العالمية 2008، رغم تجمع الدلائل عليها، من اطلاعها على موقف القطاع المصرفي والقروض العقارية، ثم تسببت نصائحها التوسعية بتدمير سمعة شركة جنرال موتورز الأميركية وانهيار أسهمها.
هذه كلها أمثلة فقط على خيبات الشركة الاستشارية، بالإضافة إلى اتهامات الصحف الأميركية لها بتعيين أبناء المسؤولين، كما جرى في السعودية، بتعيين نجل خالد الفالح وزير النفط السابق، وعدد من أبناء الأمراء، بالتوازي مع إشرافها على وضع وتنفيذ "رؤية 2030" المتعثرة في المملكة.
لكن لماذا البحث عن الحلول البعيدة من الأصل؟
لم يقرر الحكام العرب الاستفادة من الصعود الصيني الهائل حيث يطمح الشعب إلى بناء نظام اقتصادي بديل، يكسر هيمنة الولايات المتحدة الأميركية والدولار على العالم.
الصين خلال صعودها المبهر خاصمت كل توصيات مؤسسات المال والاستشارات العالمية. فالدولة تتدخل بشكل كامل في إدارة اقتصادها، ولا تترك عملتها تحت رحمة المضاربين، وتحدد سعرها بناء على ما يناسب سياسات التجارة الخارجية، والاستثمارات الجديدة في معظمها حكومية لا خاصة أو أجنبية، ويطرح طريق الحرير فرصة أكثر من سانحة لتعاون وثيق، يستهدف أولًا مصالح الشعوب العربية.
وفي التجارب الدولية القريبة أيضًا ما يمنح الفرصة، شرط وجود إرادة ورؤية، فالجمهورية الإسلامية الايرانية، ورغم سنوات الحصار الدولي الطويل والظالم، خرجت للمنطقة والعالم فاعلًا جبارًا، كسرت اليد الأميركية الطولى بمنظومات تسلح محلية، وأعادت هندسة المجتمع، وسارت نحو النهضة - كما ينبغي تعريفها - تتألق تجربتها في بهاء ومجد، ومنحت التجربة لجغرافيا إيران قوة، واستمدت من تاريخها طاقة، لتصنع ثراءً فريدًا للبلد وإنجازات على مختلف المستويات.
المثير في تجربة النهضة الإيرانية، أنها استفادت من واقعها، وخاصمت الهيمنة النفسية للغرب، قبل أن تخرج من الهيمنة الاقتصادية. إحدى أبرز مشاكل العالم العربي اليوم هي أن الحكومات تقبل توصيات مؤسسات التمويل الغربية وكأنها قدر مقدور، وليس في ظل أنها سعي غربي لاستكمال الحصار الخانق على الأمة، وامتصاص ثرواتها، وضمان استمرار فتح أسواقها أمام المنتجات الغربية، بلا فكاك من واقع التبعية المقيت. كانت المقاومة هي نقطة البدء تمامًا في الصعود الإيراني.
الدولة الشرق أوسطية، والتي تنتمي إلى عالمنا العربي بكل تناقضاته ومشاكله، حتى اليومي منها، نجحت في تقديم المثال الواضح الناجح لتحدي الهيمنة الغربية، وأسست نموذجها الخاص في التنمية، ورسمت الإصلاح الاقتصادي - الاجتماعي، كما يجب تقديمه، لا كما يتخيله غالبية الحكام في عالمنا العربي، المنكوب بغياب الرؤية اللازمة لعبور الأزمة، وعجز القدرة الضروري للإفلات من الهيمنة الغربية، السائرين نيامًا في طريق التراجع المساوم المستمر.
مشروعات فضاء، صناعات متقدمة، قاعدة تكنولوجية محلية، تعليم راق وبحث علمي يضاهي دول أوروبا ويتفوق عليها، وتجربة ثورية في نظام الحكم، أنتجت 12 انتخابًا رئاسيًا نزيهًا بشكل لم يعرفه الشرق الأوسط، ومشروعًا متكاملًا نجح في الوقوف 4 عقود متتالية في وجه الغرب، ليس في مواجهة الحصار والحروب فقط، وإنما أيضًا استطاع تنفيذ التزامه بدعم قضايا المستضعفين والشعوب المقهورة، وأهمها قطعًا قضية العرب المركزية فلسطين.
قوة النموذج الإيراني تركزت في تمكنه من صنع وتثبيت نظام مغاير لما يروجه الغربي عبر الإعلام ليل نهار، ليس من الضروري أو المنطقي أن يفرض مجموعة من موظفي جهات دولية ما يرونه أشكالًا للحكم والإدارة والاقتصاد، كل مجتمع يجب أن يتبنى ما يتوافق مع ظروفه والمعطيات الموجودة فيه، وهذا بالضبط ما جعل النظام الإيراني في الحكم يستمر وينجح، رغم أنف مهاجميه منذ نهاية السبعينيات ومع وصمه بأنه نظام من الماضي، بينما سقطت للغرابة النظم المستوردة تباعًا، في عنف ومهانة شديدين.
الإجابات على قضية التنمية والقضاء على الفقر - لا الفقراء - موجودة، تنتظر توافر الظرف والإرادة فقط، فما حققته دول العالم من نجاح حولنا يعني أننا نسير في طريق خاطئ، لا كما تحاول أبواق الدعاية الصهيونية تصويرنا كأننا خلقنا للعجز والانكفاء واستهلاك الأفكار والقيادة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024