آراء وتحليلات
هل يفعلها لبنان؟
د. علي مطر
أمام ما يحصل من تحولات في السياسة الدولية، والتي تؤثر على خريطة توزيع القوى في النظام الدولي، الذي لم يعد قائماً على الاحادية الأميركية، فإن النظام الاقتصادي العالمي الذي قام على الأحادية لن يدوم طويلاً، فكما بدأ الانتقال إلى مرحلة التعددية في السياسة الدولية، بات العالم بحاجة فعلية لنظام اقتصادي يقوم على التشارك والدمج كخيار اقتصادي عالمي بدلاً من الاستئثار، لأنّ الدول لن تسكت أو تصمد كثيراً في حال استمرّ الاقتصاد العالمي على ما هو عليه. وهنا بإمكاننا النظر إلى التحوّلات الاقتصادية في روسيا والصين وإيران، والتي أصبحت تتخطّى العقوبات الاقتصادية لا بل تحاربها.
أولاً: كيف بدأت هذه الهيمنة ومواجهتها؟
بدأت هذه المواجهة تتصاعد مع بداية القرن الـ21 في وجه النظام الاقتصادي الحالي الذي بني في الأصل لكي يؤمن السيطرة الأميركية على العالم، وذلك لأن الهيمنة في لعبة الأمم لما حصلت لولا ما اقترنت بالهيمنة الاقتصادية، التي بنيت في مؤتمر بريتون وودز عندما اجتمع أعضاء وفود 44 بلدا في تموز 1944 لإنشاء مؤسستين تحكمان العلاقات الاقتصادية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تم إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فاصبحا سيفاً أميركياً - غربياً مصلتاً على رقاب الشعوب، وقد أدى تراجع النظام الاقتصادي القائم على الاشتراكية كنظام اقتصادي كان يحتل جزءاً كبيراً من الاقتصاد العالمي مع سقوط جدا برلين، إلى سقوط الجدار الأخير في وجه الهيمنة الاقتصادية الأميركية القائمة على الجشع الاقتصادي وصعود العولمة بشكل يشبه الوحش المفترس الذي يهاجم العالم، وهذا ما ساهم في تثبيت الهيمنة الرأسمالية الأميركية على العالم.
شهدت تسعينيات القرن الماضي انتصار الهيمنة الاقتصادية الأميركية على النظام الاقتصادي العالمي، ومن ثم بدا التأثير الواضح لهذه الهيمنة في تشكيل النظام الاقتصادي العالمي الجديد. ولقد لعبت المتغيرات والمستجدات الدولية دوراً كبيراً في بروز الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى مهيمنة لا تجرؤ أية دولة على تحديها ومنافستها على مكانتها العالمية حتى سُمي النظام العالمي بنظام القطب الواحد. كان ذلك يحصل مع نشر أو عولمة فلسفة النظام الرأسمالي وعقيدته اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وتحديد وتأطير شكل وهيكل الاقتصاد العالمي تحت مظلة منظمة التجارة العالمية، التي تعمل على إرضاء الدول الصناعية الكبرى، وبرزت الكيانات الاقتصادية الإقليمية وحركة الخصخصة والإصلاحات الاقتصادية الهيكلية على نطاق واسع في كافة دول العالم تكيفاً مع النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وهذا ما أدى إلى شرخ كبير بين دول العالم، حيث أصبحنا في عالم منقسم بين دول غنية وأخرى فقيرة وكأننا أمام طبقات اجتماعية، فباتت الدول الصناعية تأكل الدول النامية.
لكن مع بداية القرن الواحد والعشرين وصولاً إلى يومنا هذا، بدأت تدخل متغيرات جديدة في النظام الدولي، أخذت تؤثر في مجمل الصورة التي بني عليها، دون أن يعني ذلك سقوط الهيمنة الأميركية على الاقتصاد خاصة، إنما ذلك يعتبر بناء جديدًا لتغيرات اقتصادية جديدة، خاصةً أننا في مرحلة استخدام السلاح الاقتصادي من خلال العقوبات الأميركية والتي بدأت تواجهها سياسات دولية جديدة أو عقوبات متبادلة من دول سئمت هذه السياسة، ويبدو واضحاً أننا أمام حقيقة لا يمكن إخفاؤها، وهي مرحلة الترهل الأميركي حيث لم تعد الدولة الأميركية قادرة على السيطرة المطلقة دون مواجهة. هنا نلفت إلى أن ما يحصل بين الولايات المتحدة الأميركية والصين من عقوبات متقابلة ومواجهة اقتصادية دائمة هي دليل على ذلك، وبالتالي فإن تأثير المتغيرات والمستجدات الدولية بدأ ينعكس على اقتصاديات العالم باكمله بسبب النظام الاقتصادي القائم على اليهمنة، وهو ما انعكس على معدلات نمو اقتصاديات الدول الصناعية الكبرى والجهود التي تبذل من أجل تجاوز حالة الركود الذي شهدته تلك الاقتصاديات.
ثانياً: بروز الأقطاب
اليوم لم تعد واشنطن القطب العالمي الوحيد الذي لا ينافسه قطب آخر بالمعايير الاقتصادية والعسكرية والأمنية والسياسية والعلمية، فقد برزت دول عظمى كالصين وروسيا إلى مقارعة الهيمنة الأميركية، فضلاً عن صعود دول إقليمية كإيران، بنت قوة تستطيع من خلالها مقارعة هذه اليهمنة والاعتماد على الذات لتحقيق الاكتفاء الذاتي ومواجهة سياسة العقوبات والتصدير إلى الخارج. وإذا نظرنا إلى التنين الصيني الذي بات يفرض نفسه كقوة مناهضة للهيمنة الأميركية - إلى جانب روسيا - نرى أنه من خلال دمج قوة الصين الهائلة اقتصادياً، والتي نمت خلال العقود الثلاثة المنصرمة حيث غزت الأسواق العالمية، مع ما تملكه من قدرات عسكرية مذهلة، فضلاً عمّا تشهده من ثورة تكنولوجية ضخمة،. أضف إلى ذلك، القدرة على التحرّك في السياسة الدولية، كونها تعدّ عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي تتمتّع بحق النقض الفيتو، ولديها سياسة خارجية قوية منفتحة على كلّ دول العالم وقادرة على نسج تحالفات عدّة، حيث تملك قدرات دبلوماسية تفوقت فيها على واشنطن، فضلاً عن تمتّعها بموقع جغرافيّ استراتيجيّ يسمح لها فعلاً بتأسيس مبادرة الحزام والطريق، حيث تقع الصين في النصف الشرقي من الكرة الأرضية والجزء الشرقي من قارة آسيا والساحل الغربي من المحيط الهادئ، إذا ما أخذنا كلّ ذلك في عين الاعتبار، فإنّنا سنكون أمام قطب عالميّ لم يعد يسمح لواشطن بتصدّر النظام الدولي سياسياً واقتصادياً. ولا يقل دور روسيا أهمية عن دور الصين، خاصةً لجهة ما تملكه من ثروة نفطية وغازية هائلة، وتطور كبير في مصادر الطاقة ناهيك عن دورها السياسي والعسكري.
ثالثاً: الانتقال إلى الشرق
بناء على ما ذكرناه آنفاً، فمن المتوقع أن تبدأ الكثير من دول العالم التحول نحو الشرق، وخاصةً نحو الصين كقوة اقتصادية عالمية تتشارك مع العالم بنظرة ايجابية لا تقوم على الهيمنة وباكلاف اقتصادية تتحملها الدول الصناعية والنامية على حدا سواء.
ومن المتوقع ايضاً أن تنكسر الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي، نتيجة ما تعتمده الإدارة الأميركية من إرهاب مالي واحتكار اقتصادي بحق جميع دول العالم، وهذا وإن كان دونه عقبات جمة إلا أنه لا بد أن يصبح مطلباً عالمياً لكسر هذه الهيمنة والبدء بإصلاح المؤسسات الاقتصادية العالمية التي كانت تستخدمها واشنطن كسيف مصلت على رقاب الدول مثل صندوق النقد والبنك الدوليين وغيرهما من المنظمات كمنظمة التجارة العالمية.
رابعاً: هل يفعلها لبنان؟
يعاني لبنان من أزمات اقتصادية عدة، على الرغم من كونه يملك ثروة نفطية معتبرة، إلا أن المشكلة تكمن في فرض الهيمنة على قرار دولته من قبل الإدارة الأميركية، والتي تفرض دائماً ابتعاده عن التنمية أو تحمله أكلاف اقتصادية كبيرة في قطاعاته الاقتصادية نتيجة الارتهان أو المسايرة الأميركية، فإلى متى سيستمر هذا الوضع، خاصة أن الأزمة الاقتصادية تفاقمت وبدا الوضع الاقتصادي في صورة قاتمة حيث أصبحنا على شفير الهاوية.
لذلك يمكن أن يكون لبنان من ضمن الدول الكثيرة التي بدأت بالهجرة نحو الصين، فلبنان كغيره من البلدان إذا تحول إلى الشرق فإنه سيجد ضالته في تحسين اقتصاده، ومن هنا يمكن الإشارة إلى ما حمله خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الأخير الذي قدم فيه خارطة طريق اقتصادية فيها بدائل متعددة وحلول ذات رؤية اقتصادية متقدمة وواضحة يمكن أن تنقذ لبنان من خلال القيام بخطوات تعبر عن قرار سيادي بالتحول نحو الشرق.
هذه الفرصة سانحة اليوم بشكل جدي، خاصةً أن لبنان يعيش في قلب صراع التوازنات العالمية بما يملكه من عناصر قوة من خلال موقعه الجغرافي وثروته النفطية ومقاومته، وهذا ما يجعل واشنطن تحاول اليوم ضرب بنية الدول وعرقلة عمليات التنمية، فلذلك نحن أمام خيارات متعددة منها الانفتاح على الشرق كبديل اقتصادي أساسي لكسر هيمنة الإدراة الأميركي على القرار اللبناني.
أما الخيار الهام جداً الذي يساعد على نهوض مناطقنا والوقوف بوجه الإرهاب المالي الأميركي، فهو التحول نحو الإنماء الاقتصادي الداخلي بالاعتماد على النفس، فيما يعرف بالمقاومة الاقتصادية القائمة على تفعيل قطاعات الانتاج المحلي والحد من الإسراف، والاعتماد على تنمية القطاعات الانتاجية بالاعتماد على العمل المحلي وتوزيع الانتاج، ويكون ذلك باستثمار الثروة الطبيعية والأرض واستثمار الكوادر المحلية بشكل عادل ومن ثم العمل على العدالة في عملية التوزيع ما قبل الإنتاج؛ والتوزيع ما بعد الإنتاج، وهذا ما يحتاج إلى بحث يطول لكنه يبقى خياراً مهماً في المقاومة الاقتصادية.
*أكاديمي وباحث في العلاقات الدولية
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024