آراء وتحليلات
واشنطن وبيونغ يانغ..التفاوض أو تصاعد حدة النزاع
د.علي مطر*
في عام 2002 وصف الرئيس الامريكي جورج بوش كوريا الشمالية بأنها جزء من محور الشر. بعد مرور 18 عاماً تغير الوصف في الاستراتيجية الأميركية وأصبح كيم جونغ أون بحسب سيد البيت الأبيض حالياً دونالد ترامب رجلًا صاحب كلمة. وتوافقاً مع القول إن الولايات المتحدة الأمريكية دولة لا تحترم إلا الأقوياء، يمكن القول إن كوريا الشمالية التي تحولت إلى دولة تمتلك سلاحاً نووياً جعلت الولايات المتحدة الأميركية تسعى لمواصلة التفاوض معها، وتنتقل من نظرية "الشر" التي قد تهدد شرق آسيا إلى نظرية الاحتواء بالعقوبات، وصولاً إلى التفاوض والاتفاق لتفكيك برنامجها النووي، وهو ما وصفه ترامب بالنصر الديبلوماسي.
ومع إعلان كيم جونغ أون أن العالم سيشهد سلاحا استراتيجيًا جديدًا، فإن العالم بات ينتظر ما سؤول إليه الأمور، والتي يرى فيها كثيرون إعادة لتوتير الأوضاع الأمنية في شرق آسيا، والذهاب نحو ترتيبات جديدة، وهذا ما دفع دونالد ترامب إلى مغازلة كيم لعدم الإقدام على تجربة جديدة تسقط النصر المفترض في سياسته الخارجية، وتضع المنطقة على شفير المخاوف من أية حرب نووية، خاصةً أن هذا الإعلان يأتي في لحظة سياسية دقيقة تشهدها العلاقات الدولية.
أهمية الموقع الكوري في ورقة التفاوض
ومن خلال النظر إلى الموقع الجيوسياسي لكوريا الشمالية، نفهم مدى تأثر كامل منطقة شرق آسيا بأي ترتيب أمني جديد، أو معركة محتملة في حال الذهاب مجدداً نحو التحدي بين واشنطن بيونغ يانغ، فكوريا الشمالية تمتلك موقعاً هاماً في الخارطة السياسية لشرق اسيا لا بل في مجمل المشهد في السياسة الدولية، حيث إنها تقع في النصف الشمالي من شبه الجزيرة الكورية في شرق آسيا. ويكوّن نهرا الأمنوك والتومين الحدود الشمالية والشمالية الغربية لها مع الصين والجزء الشرقي من نهر تومين يفصل بينها وبين روسيا أيضا في حدود قصيرة في أقصى الشمال الشرقي يصب بعدها في بحر اليابان الذي يحدها شرقا، أما غربا فتطل مع الصين على خليج كوريا والبحر الأصفر، ويمتد في الجنوب شريط بري عازل يفصل بينها وبين النصف الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية الذي تشغله دولة كوريا الجنوبية على طول خط هدنة وقعت بينهما في 27 يوليو 1953 في خضم الحرب الباردة، ولا يزال البلدان في حرب رسمية، ولم توقع معاهدة السلام أبداً.
وفق هذه المعطيات، يشكّل البرنامج النووي الكوري نقطة الثقل في نزاع بيونغ يانغ وواشنطن في ضوء تأثيره المباشر على التوازنات في منطقة مهمة لمصالح الأخيرة. وفيما ينطلق النظام الكوري الشمالي في صراعه مع الولايات المتحدة وحلفائها في الإقليم من إحساسه بالخطر، ما دفعه إلى التصعيد والدخول في تحدٍّ مباشر لهم، في محاولة لإثارة القلق والرعب الإقليمي والدولي للدفع إلى تحرك سياسي وفتح مفاوضات جديدة للاتفاق على مخرَج يلبِّي تطلعاته السياسية والعسكرية، المتمثلة برفع العقوبات عنه والاحتفاظ بصواريخه وقنابله، والاعتراف به دولة نووية، وإملاء شروطه الأمنية على كوريا الجنوبية، للحدِّ من الحماية الأميركية التي تحظى بها، وشروطه المالية والاقتصادية للاستفادة من مواردها الكبيرة، في حين تعبّر واشنطن دائماً عن رفضها المساعي النووية لكورية الشمالية، وتعتبرها "استفزازًا"، على مستويين سياسي وعسكري.
مواقف الأطراف
ويثير التصعيد الكلامي بين واشنطن وبيونغ يانغ قلقًا دائمًا عند دول الجوار، كوريا الجنوبية واليابان بشكل خاص، خوفًا من انزلاق الوضع إلى حرب فعلية، على خلفية تقديراتها للكلفة البشرية والمادية لحرب قد تُستخدم فيها أسلحة دمار شامل، وهذا ما يجعل هذه الدول تتحفظ على اللجوء إلى الخيار العسكري في التعامل مع الملف. وترفض روسيا والصين استخدام القوة في حل الخلاف، وتؤكدان دائماً على ضرورة التفاوض والالتزام بالشرعية الدولية وحل النزاعات وفق القانون الدولي بما يحفظ أمن النظام الدولي وسير العلاقات الدولية. فالصين، القوة العظمى التي تربطها بكوريا الشمالية اتفاقات سياسية وعسكرية واقتصادية، تخاف من إعطاء النزاع حججًا لواشنطن لتكثيف حضورها على حدودها ونشر أسلحة متطورة، مثل شبكة صواريخ "ثاد" المضادة للصورايخ التي نصبتها في كوريا الجنوبية، وتحقيق تفوق كاسح في الإقليم ينعكس سلبًا على خططها في بحري الصين الشرقي والجنوبي. أما روسيا من جهتها فتخشى تداعيات التصعيد الإعلامي واحتمالات تطور الموقف إلى حرب؛ ما يضعها في موقف حرج ويدفعها إلى مواجهة خيارات حساسة، لمنع الولايات المتحدة من السيطرة على الإقليم بشكل كامل.
لقد أصبحت كوريا الشمالية تشكل معضلة نووية لواشنطن، وبات أي عدوان عسكري على بيونغ يانغ يمكن أن ينتهي بكارثة على كوريا الجنوبية واليابان والقوات الأمريكية الموجودة في كوريا الجنوبية، وربما للولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وهذا ما جعل الإدارة الأميركية، وبقية الدول الأطراف تضطر للعودة للتفاوض معها لإقناعها بالتراجع عن دخولها النادي النووي، فكوريا الشمالية تملك أوراق قوة على طاولة المفاوضات للحصول على شروط عادلة على الأقلّ. وعلى الرغم من أن المفاوضات النووية تعثرت بصورة كبيرة منذ إخفاق قمتهما في هانوي شباط 2018 وتحديد كوريا الشمالية موعدًا نهائيًا بنهاية العام 2019 لتقديم تنازلات جديدة، وإلا ستتبنى "أسلوبا جديدا"، وهذا ما انعكس من خلال تصريحات زعيم كوريا الشمالية التي جاءت ضمن خطاب استمر لإعداد البلاد لفترة أخرى من المصاعب الاقتصادية خاصة وأن بيونغ يانغ تستعد لمرحلة جمود طويلة الأمد مع الولايات المتحدة، إلا أن واشنطن نفسها تريد الجلوس على طاولة المفاوضات مع بيونغ يانغ، فماذا ستحمل المرحلة الجديدة في العام 2020 بين البلدين؟ وكيف ستكون الترتيبات السياسية والأمنية في منطقة شرق أسيا؟ أسئلة تبقى في دائرة البحث، على الرغم من أننا نرى أن الإدارة الأميركية الحالية والمقبلة ستكون مضطرة إلى الجلوس مجدداً على طاولة المفاوضات.
*أكاديمي وباحث في العلاقات الدولية
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024