معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

من
07/02/2020

من "سايكس بيكو" حتى "صفقة القرن": مشروع واحد

عبير بسّام

وقف رجلان بائسان يجللهما طمع لا حدود له في أرضنا وخيراتنا، وطمع بالاستمرار في سدة الحكم وهما ينتظران قرار المحاكم ليتم عزلهما وتجريمهما. أفرغ كلّ منهما ما في جعبته من الحيل القادر عليها في هذه المرحلة التاريخية، ليعلنا أن حدود الطمع لا تنتهي بإعلان نهاية فلسطين التاريخية، بل إن عروس المدائن قد أصابها الهوان. وفي وقت يظن فيه البعض أنّ المراحل التاريخية منفصلة، وهي ليست كذلك بالتأكيد، فإن ما يحدث في فلسطين وتفكك العالم العربي والكفر بالعروبة ليس محض صدفة، بل هو عمل مخطط له.

بدأ المخطط مع محاولات التطبيع مع الدول العربية باتفاق كامب ديفيد الذي أخرج مصر من الصراع مع "اسرائيل" ومروراً باتفاقات أوسلو التي مهدت الطريق للعلاقات الخليجية بعد وضع دول الخليج في حالة من العداء مع جارتها إيران، وهذا ليس أمراً عبثياً بل هو مخطط قائم وقد عبر عنه رئيس وزراء الكيان في الشهر الماضي، وتحدث عن أزمة الكيان مع القومية العربية وكيف أنها تهديد تغلبت عليه "إسرائيل" كما ستتغلب على التهديد الإيراني، عندما قال: "إن غايتنا الكبرى هي التغلب على التهديد الإيراني، وهو تقليدي ونووي و(إرهابي) كما تغلبنا على التهديد الذي تمثل بالقومية العربية". وعندما نتحدث عن الدولة العميقة في الولايات المتحدة، أو في أية دولة تقوم على أساس تنظيم أمورها وتقدير مصالحها، فعلينا أن نفهم أن هكذا نوع من التنظيم يقوم بناء على مخططات طويلة الأمد.

فالانتصار على القومية العربية كما يراه نتنياهو هو من خلال الاتفاقيات المتفرقة التي وقعت مع الدول العربية ومن خلال العلاقات التي بدأها الكيان مع معظم ممالك الخليج العربي، والتي يأمل من خلالها إعلان قيامه على كامل فلسطين. مرّ إعلان نتنياهو الخطير مرور الكرام، عفواً المتخاذلين، دون تعليق من أحد، وكأن حكام العرب يريدون إعلان نهاية الشعور القومي العربي، والذي لم يستطع العثمانيون التغلب عليه خلال أربعمئة عام من الاحتلال. وبالتالي يبرز هنا أهمية ما قاله حبش- مؤسس حركة القوميين العرب، ومؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- خلال سنوات نضاله ضدّ العدو الصهيوني حين قال إن فلسطين سيحررها نضال الشعب العربي. بُعد الرؤية التي تميز بها حبش يكشف مدى الرعب الإسرائيلي من هذه القوة إذا اجتمعت.

ثم إن دَأْبَ الأميركي على تنفيذ خطة برنارد لويس حول "مشروع التفكيك المتمم لسايكس بيكو"، ومنذ أن أقره كونجرسه في العام 1983، أمر أساسي. وضع المشروع إبان عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر (1977- 1981). جاء التحضير للخطة بعد تصريح مستشار الأمن القومي زبغنيو بريجينسكي في عهد كارتر، خلال الحرب العراقية الإيرانية في العام 1980: "إن المعضلة التي ستعاني منها أميركا منذ الآن هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الخليجية الأولى التي حدثت بين العراق وإيران لتستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود سايكس بيكو". بعد هذا التصريح بدأ لويس بوضع مشروعه الشهير بتفكيك الدول الإسلامية ومنها إيران وباكستان وأفغانستان والدول العربية المفككة أساساً والسعودية والسودان ومصر وليبيا وسوريا ولبنان، وإعادة تركيب الأردن. في العام 2007 دعت أمريكا إلى مؤتمر أنابوليس للسلام، عندها كتب برنارد لويس في صحيفة "وول ستريت": "يجب ألا ننظر إلى هذا المؤتمر ونتائجه إلا باعتباره تكتيكًا موقوتًا، غايته تعزيز التحالف ضد الخطر الإيراني، وتسهيل تفكيك الدول العربية والإسلامية، ودفع الأتراك والأكراد والعرب والفلسطينيين والإيرانيين ليقاتل بعضهم بعضاً، كما فعلت أمريكا مع الهنود الحمر من قبل"، وذلك بحسب ما نشره موقعrevfacts.blogspot.com .

واليوم ما يحدث في فلسطين، ومحاولة فرض صفقة القرن لا يخرج أبداً عن توصيات لويس، وهو خطوة في طريق التقسيم بعدما أحبط تنفيذ مشروع غونداليزا رايس في العام 2006، بعد الانتصار في الجنوب. عاد المشروع بحلّة أخرى، تقتضي أن تحارب أهل الأرض بعرب ومسلمين استجلبوا من بلادهم في باكستان وأفغانستان بوصفها الحلقات الأضعف، من أجل تنفيذ المخطط الذي طال انتظاره، وهذا ما دفع لإعلان نتنياهو عن الانتصار على القومية العربية بعد أن انطلق الشباب العربي ليقاتل بعضه البعض ولتقف الدول العربية ضد بعضها البعض، لتنفذ مشروع كارتر لتفكيك المنطقة العربية والشرق الوسط، بكامله.

ما سبق، يرتبط تاريخياً بـ"وثيقة كامبل"- المسماة باسم السير هنري كامبل بانرمان، رئيس وزراء بريطانيا- التي وضعت في العام 1907 وتقضي بضرورة مواجهة الشعب الواحد الذي يتمتع بالوحدة التاريخية والدينية واللغة والآمال، والذي لديه جميع أسباب القوة والتحرر والنهوض والوقوف في وجه أوروبا الاستعمارية. وبالتالي فقد جاء في الوثيقة "إن على الدول ذات المصالح المشتركة أن تعمل على استمرار وضع هذه المنطقة المجزأ والمتأخر وعلى إبقاء شعبها على ما هو عليه من تفكك وجهل وتأخر". والتوصية الثانية كانت: "بضرورة العمل على إقامة حاجز بشري قومي وغريب على الجسر الذي يربط آسيا بأفريقيا ويربطهما معاً بالبحر المتوسط. حيث يجب أن تقوم في هذه المنطقة، وعلى مقربة من قناة السويس، دولة صديقة للاستعمار عدوة لسكان المنطقة". وبالتالي فقد كانت التوصية بإنشاء "دولة إسرائيل" لتشكل هذا الحاجز البشري الغريب.

لا يمكن الحديث عن صفقة القرن دون الحديث عن خطط تعمل أميركا على تكريسها منذ وعد بلفور في العام 1917 بتأسيس "دولة إسرائيل" لليهود الصهاينة في فلسطين. وعدٌ، جاء مترافقاً مع تقسيم سايكس بيكو في العام 1916. ففي 4 تشرين الأول/ اكتوبر 1917، التقى الرئيس الأميركي وودرو ويلسون مع كل من لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني وحاييم وايزمن، ليعلن بلفور بعد اللقاء أن ويلسون ينظر بعين الرضا إلى الحركة الصهيونية، وفي 2 تشرين الثاني/ نوفمبر صدر وعد بلفور. نظم اللقاء حينئذ لويس برانديز، الأستاذ الجامعي والمحامي اليهودي والصهيوني العنيد والصديق المقرب من ولسون، والذي حمل معه للبريطانيين وعداً بدخول أمريكا إلى جانبهم في الحرب العالمية الأولى وباستمرار التعاون الأنجلو- أميركي حتى يومنا هذا.  

صحيح أن الحديث عن الشرق الأوسط الجديد قد توقف، ولكن لجمه ارتبط بحجم المقاومة التي أبدتها سوريا والمقاومة في لبنان، إلا أن هذا لا يعني توقف خطة العمل عليه من خلال استنباط خطط أخرى تتوافق مع محاولات تقسيم العراق وسوريا وليبيا وغيرها من الدول العربية ودول الشرق الأوسط من خلال موجات "الربيع العربي" و"ثورات الجواكر" التي انفجرت في لبنان والعراق وإيران. وبناء عليه، لا يمكننا فصل التمركز الأميركي في شرق الفرات وفي التنف في سوريا خارج نطاق الوعد، والحقيقة أن من يريد وقف صفقة العار عليه أن يخرج الأميركي من منطقتنا دفعة واحدة وإلى الأبد.

صفقة القرن

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات