آراء وتحليلات
هل بلغ "الناتو" مرحلة التقاعد؟
سركيس أبوزيد
بعد مسیرة سبعین عامًا من النجاح یقف حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي تقوده الولایات المتحدة أمام مفترق طرق، حیث یواجه تحدیات ھائلة ما بین عسكرة الفضاء وعودة روسیا بزخم إلى الساحة الدولیة وصعود الصین كقوة عسكریة، بالإضافة إلى أن المعضلة الحقیقیة التي تواجه قادة حلف "الناتو" تتمثل في تحدید العدو: روسیا أو الصین، أو الإرھاب؟ وھذا یتطلب توافقًا غیر متوفر حالیًا بسبب اختلاف الأولویات والمصالح لدى الدول الأعضاء.
اليوم، يدور النقاش حول نھایة حلف شمال الأطلسي، وھو من الناحیة السیاسیة یعاني من ضعف بسبب الخلافات المتعددة وذات الطابع الاستراتیجي العمیق والحاد بین فرنسا وألمانیا الممثلتین للاتحاد الأوروبي من جھة، وأمیركا من جھة أخرى، إضافة إلى الخلافات بین الدول الأوروبیة فیما بینھا، خاصة الخلاف البریطاني مع الاتحاد الأوروبي والمعضلة البریطانیة مع الانسحاب من الاتحاد، إضافة إلى قضیة التبادل التجاري بین أمیركا وأوروبا وفرض الرسوم الجمركیة بینھما بمستویات غیر مسبوقة، وھي قد تتطور إلى حرب تجاریة بین الحلفاء. وھناك أیضا السلوك الأحادي الذي اعتمدته تركیا، الحلیفة الأطلسیة، المتمثل بقيام الرئیس التركي أردوغان بعقد صفقة صواریخ أرض - جو مع روسیا. أضف إلى ذلك غزو الجیش التركي لأراضٍ في شمال سوریا واحتلالھا، وإصرار الرئیس أردوغان على وضع الجماعات الكردیة المسلحة على قائمة الإرھاب، شرطا لموافقته على خطة "الناتو" لحمایة البلقان، يضاف إليها ابتزاز أردوغان للأوروبیین من خلال استخدام ورقة الضغط الكبرى التي بحوزته المتمثلة باللاجئين، وذلك إما لمعاقبة الاتحاد الأوروبي أو لدفعه لتوفیر الدعم الذي یریده منھم.
وبالفعل، توافد آلاف المھاجرین من جنسیات مختلفة على سواحل بحر إیجه والولایات التركیة الحدودیة مع الیونان وبلغاریا، عقب أنباء أفادت بأن تركیا لن تعیق عبور المھاجرین نحو أوروبا. مرة أخرى، یبدو عجز الاتحاد الأوروبي، خصوصًا الدول الكبرى المؤثرة فیه مثل ألمانیا وفرنسا، واضحا في التعامل مع الأزمة السوریة. وما یفاقم من حرج موقفھم أزمة وصول آلاف اللاجئین من تركیا إلى أبواب أوروبا.
في المقابل، یعتبر البعض أن "الناتو" انتھى كمؤسسة تاریخیة كان لھا الدور الفعّال في أزمات العالم، لعدة أسباب، أبرزها:
- وصول دونالد ترامب إلى البیت الأبیض عام 2016، الأمر الذي زاد حجم رقعة الارتباك، وذلك بسبب إصرار ترامب على رفض تحمّل بلاده تكالیف دعم الحلف وحدھا، وإصراره على زیادة النفقات العسكریة من بقیة الأعضاء وعلى رأسھم ألمانیا وفرنسا، للإسھام في الدفاع عن البلدان الأوروبیة التي تعتبرھا غنیة بدرجة كافیة لتولي مھام الدفاع الذاتي. ویبدي الرئیس ترامب الازدراء حیال الحلفاء في أوروبا ویوبخھم علنا، ومواقفه تتسم بالعدائیة والاستخفاف تجاه حلف شمال الأطلسي الذي وصفه بأنه "عفا عليه الزمن" ومن مخلّفات الحرب الباردة، كما أنه لا یلتزم بالمادة الخامسة من میثاق الحلف، وھي المادة المعنیة بالتزام الولایات المتحدة الدفاع عن الأعضاء الآخرین في الحلف، حيث یأمل البعض في حلف "الناتو" في أن لا یعُاد انتخابه في السنة المقبلة، لعدم قدرته على اتخاذ قرارات استراتیجیة في المصلحة المشتركة.
- النزعة الأوروبیة بقیادة فرنسیة الى الاستقلالیة والدفاع الذاتي وعدم الاتكال على أمیركا، والانفتاح على روسیا. فقد أعلن ماكرون أن الحلف بات في حال "موت دماغي"، وأن أوروبا باتت تقف على حافة الھاویة، وأنھا تحتاج إلى التفكیر من منطلق كونھا قوة جیوسیاسیة مستقلة عن الولایات المتحدة. ودعا الأوروبیین إلى امتلاك مزید من قدرات التحرك إزاء التحولات والاضطرابات العالمیة، وأن یكون لھم دور في المفاوضات المقبلة بشأن الرقابة على الأسلحة النوویة، وخصوصا السباق على التسلح الجاري في الوقت الحاضر. ودعا الى حوار استراتیجي مع روسيا حول قضایا الأمن الجماعي، وحیث یرى إن الإرھاب، ولیس روسیا أو الصین، ھو العدو الرئیسي لـ"الناتو" ویعتبر أن أوروبا في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في العلاقات الاستراتیجیة التي تربطھا مع روسیا، من أجل بناء السلام في أوروبا وإعادة بناء الاستقلال الاستراتیجي لضمان الاستقرار في أوروبا.
لكن طروحات الرئیس الفرنسي اصطدمت بالعدید من النقاط العصیبة، وأظھرت غیاب الإجماع حول مصیر الحلف وسیاسة التقارب التي یعتمدھا ماكرون حیال روسیا، إذ قوبلت باستھجان من قبل الرئیس الأمیركي والمستشارة الألمانیة والأمین العام للحلف، وأثارت قلقا وانزعاجا في دول شرق أوروبا القریبة من مخالب الدب الروسي، وانتقادات شدیدة في فرنسا.
والسؤال هنا، ھل بالإمكان "إنقاذ" حلف "الناتو"؟
ھناك وجھتا نظر:
الأولى: ترى أن حلف "الناتو" بلغ سن التقاعد، وھم في حاجة إلى إیجاد بدیل أمني جماعي أكثر وألصق انتماء بتحدیات القرن الحادي والعشرین، مشیرة الى أن الحلف ینقصه نوع من الدماغ السیاسي، أي لجنة تبلور تحلیلات وقادرة على إعداد قرارات. فـ"مجلس الحكماء" الذي من شأنه وضع مخطط زمني للمستقبل ما ھو إلا حل طارئ. وھناك نقطة ضعف إضافیة للحلف وھي أنه مع وجود عدد متزاید من الدول الأعضاء، التي لدیھا باستمرار مصالح متباینة، یصبح الإجماع بمثابة قید معیق بشكل متزاید.
الثانیة: ترى أنه رغم أن حلف "الناتو" في غیبوبة، إلا أنه لم یمت بعد، لأنه حتى الخطوات الأوروبیة نحو جعل الأمن الذاتي مشروعا مشتركا تسیر ببطء، ولا یمكن لھا في المستقبل القریب تعویض الحلف. وتشیر الى أنه على المدى المتوسط سیبقى الأطلسي الأداة الرئیسة للدفاع عن أوروبا، ولكن ستظھر بعض المبادرات الأوروبیة المكمّلة لھذا الدور.
الاختلافات في وجھات النظر بین الدول الأعضاء حول استراتیجیة الحلف المستقبلیة تؤكد أن الحلف یمر بمرحلة من أشد مراحله تعقیدا، وقد تؤدي إلى نھایته. فقلة التنسیق بین الولایات المتحدة وأوروبا والخلافات بینھما، أدت الى ضعف وارتباك "الناتو"، بالإضافة إلى وجود تحديات تواجه منطقة الیورو المنھكة، مع مشكلات الھجرة، وصعود الأنظمة السلطویة، ومخاطر التغییرات المناخیة أو احتمالات تھمیش الاتحاد الأوروبي في خضم الصراع القائم بین الولایات المتحدة والصین. وأياً كان الرئیس الذي سیدخل البیت الأبیض اعتبارا من السنة المقبلة، ھناك حقیقة واحدة جلیة ھي أن أوروبا لم تعد ذات أھمیة بالنسبة إلى الولایات المتحدة، ولا بد من إعادة تقییم واقع حلف شمال الأطلسي في ضوء التزامات الولایات المتحدة إزاء الحلف. وعلى الاتحاد الأوروبي أن یتلقى الرسالة الفرنسیة وأن یعمل على تعزیز استقلالیة الدفاع الأوروبي، لأن مستقبل أوروبا یبدو "أوراسیًا" ولیس "أطلسیًا"، في ظل تراجع الدور الأمیركي على مستوى العالم.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024