آراء وتحليلات
البريكست...والمصير المجهول لبريطانيا
سركيس أبوزيد
عامان ونصف العام مرت على مفاوضات خروج "منفرد" للمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي بعد 4 عقود من العضوية. ورغم المناقشات السياسية الحادة منذ استفتاء حزيران 2016، فإن الكثير من الغموض لا يزال يلف الآفاق الاقتصادية البريطانية وتأثير "بريكسيت" على قدرة بريطانيا الإنتاجية والتنافسية في وقت يجابه فيه الاقتصاد العالمي مخاطر مرتقبة. وكانت بريطانيا والاتحاد الأوروبي اتفقا مؤخراً على وثيقة من 585 صفحة تختتم شروط رحيل بريطانيا. وتغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي رسميا وكأول دولة تترك الاتحاد منتصف ليل 29 آذار المقبل مع إمكانية التمديد حتى نھاية 2022. لكن يجب الاتفاق على تحديد مهلة كافية أمام البرلمان الأوروبي والبرلمان البريطاني للتصديق عليه، وأيضا التحضير لما بعد الخروج، وخصوصا حول العلاقة المستقبلية الاقتصادية والتجارية بين بريطانيا والدول الـ 27 في الاتحاد الأوروبي.
في الواقع، تواجه رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أبرز تحدٍ لزعامتھا في مسيرتھا السياسية، على خلفية الخروج من الاتحاد الأوروبي واتفاق "البريكست" الذي تم إقراره بعد مفاوضات مضنية استمرت 18 شھرا. وتنص معاھدة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي على "شبكة أمان" تبقي مجمل المملكة المتحدة في اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي، وعلى قواعد أكثر تقدما في ھذا المجال بالنسبة لإيرلندا الشمالية، في حال لم يتم التوصل إلى أي اتفاق بين بروكسل ولندن بعد فترة انتقالية تستمر 21 شھرا بعد "بريكست" المقرر حصوله في 29 آذار 2019.
ولكن، وعلى خلاف المتوقع، فجّرت خطة "بريكست" زلزالا سياسيا مدمرا داخل المملكة المتحدة، فإضافة الى تصدع حزب المحافظين وتمزق أوصال حكومة ماي بعد استقالة سبعة وزراء منھا، فإن النواب المؤيدين لـ"بريكست" ينتقدون الاتفاق لأن فيه خطر ارتباط دائم للمملكة المتحدة بالاتحاد الأوروبي، معتبرين أن أي اتفاق غير الخروج الكامل والابتعاد عن قوانين الاتحاد الأوروبي ومؤسساته يعد خيانة لاستفتاء "بريكست".
في حين يختلف متشددو "بريكست" مع ماي على إبقاء قضية الحدود بين الإيرلنديتين معلقة بشكل مبھم بمصير العلاقة الجمركية الأوروبية - البريطانية، إذ جعل الاتحاد الأوروبي أي مناقشة بعلاقة تجارية مستقبلية مرھونة بتقديم المملكة المتحدة ضمانات ملزمة قانونيا بأن الحدود الإيرلندية سيجري تركھا حرة دونما حواجز من أي نوع. كما يطالب ھؤلاء بخوض مفاوضات جديدة للتوصل إلى اتفاق جديد حول العلاقة المستقبلية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. لكن إعادة التفاوض حول الاتفاق ربما تكون غير واردة، لأن الاتحاد قدم للندن اتفاقا ھو الأفضل والوحيد الممكن. والمعارضون لماي منقسمون إلى 3 فئات:
- الفئة الأولى ھي الفئة المترددة التي تريد الخروج باتفاق إنما تعتبر أنه بالإمكان التوصل إلى اتفاق أفضل من الاتفاق الحالي، وتشمل ھذه الفئة نوابا من حزب "المحافظين" ونوابا من حزب "العمال" في مقدمھم زعيم الحزب جيريمي كوربن.
- الفئة الثانية ھي الفئة التي تريد الـ"بريكست" من دون اتفاق، وتشمل ھذه الفئة النواب المتشددين في حزب "المحافظين" الحاكم.
- الفئة الثالثة ھي الفئة التي تؤيد إلغاء الـ"بريكست" من خلال إجراء إستفتاء شعبي جديد يأمل ھؤلاء النواب من خلاله أن يقرر الشعب البقاء في الاتحاد الأوروبي. وتشمل ھذه الفئة كافة نواب حزب "الليبراليين الديمقراطيين" والحزب القومي الإسكتلندي وبعض نواب حزب "العمال" وأحزاب أخرى.
اقتصادياً، لا يمكن القول إن الانفصال يخدم بريطانيا، كما لا يمكن قول عكس ذلك، والقضية معقدة بالنسبة للداخل البريطاني. ورغم أن الخبراء توقعوا بعد الاستفتاء مباشرة أن اقتصاد المملكة سوف يعاني ھبوطاً فوريا في الإنتاج، يرى وزير الخزانة البريطاني أن مسودة اتفاق بريطانيا لمغادرة الاتحاد الأوروبي، ھي أفضل حل متاح لحماية الاقتصاد والبدء في إعادة توحيد دولة مقسمة. وتشير تقديرات بنك إنكلترا المركزي إلى أن البنوك البريطانية السبعة الكبرى استعدت جيدا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما يرتبط بذلك من تأثيرات حادة على الاقتصاد والعملة، وھي ليست بحاجة الى رؤوس أموال جديدة.
على الجانب الآخر، أشارت تقارير عدة الى أن اقتصاد المملكة سيتضرر على المديين المتوسط والبعيد. فلن تتوقف التجارة على سبيل المثال بين الطرفين، لكن ستصبح ھناك شروط مختلفة لتداول السلع والخدمات، أي أن العلاقات الاقتصادية مستمرة كما ھي، لكن بوتيرة مختلفة ستؤثر على ميزان المدفوعات البريطاني على المدى الطويل.
في الواقع، يعتبر خروج بريطانيا أقوى ضربة تلقاھا الاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه. فمن المعروف أن لبريطانيا مكانة وموقعا متميزين في سلم النظام الأوروبي والدولي بفعل قوتھا الاقتصادية والمالية، وقدم ديمقراطيتھا ومؤسساتھا السياسية والتنموية وتنوّع روافدھا البشرية والحضارية. أضف إلى ذلك أن القرار البريطاني يأتي في أصعب الظروف التي يمر بھا الاتحاد الأوروبي، من أزمة اللاجئين إلى الأزمة الاقتصادية في اليونان مرورا بالأزمة الأوكرانية. ھذه المشاكل تتطلب المزيد من التعاون والتنسيق، ولھذا فخروج بريطانيا من الاتحاد يُصعب المھمة على باقي الدول وخصوصا الكبيرة وذات النفوذ كألمانيا وفرنسا.
ورغم تعميق الطلاق البريطاني - الأوروبي في ظل تنامي احتمالات رحيل أنغيلا ميركل واھتزاز وضع إيمانويل ماكرون، وصعود الأحزاب الشعبوية والقوى اليمينية المتطرفة في بقية الدول الأعضاء، لم تعلن أية شخصية ملائمة ترشحھا لمنصب رئاسة المفوضية الأوروبية، ما يعظم فرص الحركات المناھضة للفكرة الأوروبية في ولوج البرلمان الأوروبي المقبل، وشرع البريطانيون والأوروبيون في التأھب للسيناريو الأسوأ المتمثل في الطلاق من دون اتفاق، توخيا لما يسمى "اتفاق عدم التوصل إلى اتفاق"، فيما يناقش باقي أعضاء الاتحاد الأوروبي، في شكل غير رسمي، تمديدا محتملا للفترة الانتقالية لخروج بريطانيا لمدة شھرين إضافيين.
في النهاية، الخروج البريطاني يُعد ضربة قوية لثقل الاتحاد الأوروبي السياسي، فلم تعد العقوبات الجماعية التي يفرضھا الاتحاد الأوروبي ضد الدول والحكومات الأخرى بنفس فاعليتھا السابقة، مما سيضطر الاتحاد الأوروبي إلى جعل سياسته الداخلية أكثر مرونة وذلك منعا لتصدعات جديدة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024