آراء وتحليلات
اميركا تخسر الحرب الباردة الجديدة ضد روسيا وحلفائها
صوفيا ـ جورج حداد
قبل ان ينجلي دخان الحرب العالمية الثانية، شنّت الكتلة الغربية بزعامة اميركا "الحرب الباردة" ضد المنظومة السوفياتية و"المعسكر الاشتراكي" السابق بزعامة الاتحاد السوفياتي. وكان السبب الجوهري العميق لتلك "الحرب" هو النزعة الامبريالية للتسلّط الشامل على الكرة الارضية بأسرها، وتحويل جميع بلدان العالم الى مدى حيوي ومستعمرات وشبه مستعمرات للدول الاستعمارية التقليدية وعلى رأسها اميركا. ولكن آلة الدعاية (البروباغندا) القائمة على التضليل والديماغوجية، للكتلة الاميركية ـ الغربية، أمكنها تصوير النزاع في "الحرب الباردة" السابقة على أنّه يتمحور حول الصراع الايديولوجي بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، او بين الديمقراطية والنظام التوتاليتاري (الشمولي).
وبانهيار المنظومة السوفياتية في اوروبا الشرقية وتفكك الاتحاد السوفياتي ذاته، في مطلع العقد العاشر من القرن الماضي، تكرّس انتصار الكتلة الاميركية ـ الغربية في "الحرب الباردة" السابقة. وتعرضت روسيا ذاتها (قلب الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي السابقين) لهجمة شرسة من قبل الاحتكارات الرأسمالية العالمية اليهودية والاميركية والغربية، التي قامت بنهب الاقتصاد الروسي بشكل فظيع وعملت على إذلال وتجويع الشعب الروسي ومحاولة تقسيم روسيا وتحويلها الى "مقاطعات" "عالم ـ ثالث" مستعمرة وشبه مستعمرة.
وبعد ازاحة بوريس يلتسن عن الحكم، في اليوم الأخير من سنة 1999، وانتصار "الانقلاب الابيض" للحركة القومية الروسية بزعامة فلاديمير بوتين، بدأت روسيا تستعيد عافيتها ومكانتها الدولية.
ونتيجة لذلك فإن الدوائر الامبريالية الغربية واليهودية وعلى رأسها الاميركية، اصيبت بالجنون. وعمدت فورا الى شن "الحرب الباردة" الجديدة ضد روسيا، بدون اي سبب ايديولوجي او عقائدي هذه المرة، وإنّما بشكل سافر لاعادة إخضاع روسيا والشعب الروسي لإرادة ومصالح طواغيت الامبريالية الاميركية والغربية واليهودية، التي لا تريد ان ترى في روسيا الا ارضا واسعة (بلا شعب) تخضع لنهب خيراتها وثرواتها الطبيعية التي لا تنضب، من النفط والغاز وشتى أنواع المعادن والثروة المائية.
العداء لروسيا..سياسة ثابتة
واليوم تمثل سياسة العداء لروسيا العمود الفقري للسياسة الخارجية الاميركية، التي تقوم على نزعة الهيمنة الاميركية على العالم قاطبة، بكل الوسائل الممكنة.
وترى واشنطن ان التهديد الرئيسي ضد زعامتها الدولية إنّما يتأتّى بالدرجة الاولى من روسيا ذات النفوذ المتصاعد. فبوجودها بحد ذاته، وبترسانتها النووية الكبرى، تمثل روسيا التهديد الاكبر للهيبة ونزعة الهيمنة العالمية لاميركا.
ان النخبة الاميركية، في مختلف العهود الرئاسية، تؤمنْ أنّ روسيا هي عدو دائم لاميركا، وقد استفادت اميركا من الوضع المميز للدولار في النظام المالي والاقتصادي العالميين، لكي تشهر سلاح الحصار والمقاطعة والعقوبات بوجه روسيا. ولكن روسيا ردّت على تلك السياسة بانتهاج خطّة نزع الدولرة عن الاقتصاد العالمي، ونجحت في اقامة علاقات تجارية واقتصادية وعلمية (في حقل التجارب والابتكارات الصناعية الجديدة) مع الصين وايران وغيرهما من الدول، بعيدا عن المحاسبة بالدولار، وباعتماد العملة الوطنية للبلدان المعنية. وقد أدّى ذلك الى تقليص "المساحة العالمية" لاستخدام الدولار، مما سيكون له اكبر الاثر السلبي على المالية والاقتصاد الاميركيين، على المدى المتوسط والبعيد. وقد بدأت بوادر ذلك تظهر منذ الان. حيث انه في السابق كانت اميركا تدفع مئات مليارات الدولارات لمختلف الدول والمؤسسات الدولية من اجل تعزيز نفوذها وتمشية مصالحها. امّا الآن فإن الادارة الاميركية الحالية تضطلع بدور مزدوج، كمُبتزّ دولي ومتسول دولي، لتحصيل الاموال من الغير، وعمدت الى قطع المساهمة الاميركية في ميزانية وكالة "الاونروا" وميزانية "الاونيسكو" وميزانية منظمة الصحة العالمية، وهناك تلميحات انها ستخفّض حصتها في حلف الناتو التي تبلغ 700 مليار دولار، كما سرَتْ شائعات انّها يمكن ان تخفّض او توقف مساهمتها في ميزانية هيئة الامم المتحدة، وليتها تفعل!
وقد استخدمت اميركا سياسة الحصار والعقوبات والحرب التجارية ضد روسيا والصين وايران وغيرها. ولكن بمضي حوالي عشرين سنة اثبتت هذه السياسة فشلها في الوصول الى هدف تركيع تلك الدول، بل على العكس: لقد دفعت هذه السياسة الاقتصادية الاميركية المعادية الى تقارب تلك الدول وتكتلها ضد نزعة الهيمنة الاميركية، والى تعزيز اعتماد تلك الدول على نفسها وعلى بعضها البعض، مما ادى الى نشوء سوق اقتصادية غير مدولرة للدول المغضوب عليها اميركيا، تعمل بمحاذاة السوق المالية والاقتصادية العالمية المدولرة.
القوة العسكرية
وفي الجانب العسكري، فإن
ولكن الاميركيين فوجئوا بأن روسيا وضعت في الخدمة صواريخ عالية الدقة ومتعددة الاهداف ونووية مثل الصاروخ المجنح "كاليبر" (الذي يتفوق تماما على صاروخ "توماهوك" الاميركي)، وصواريخ "افانغارد" و"سارمات" و"بوسيدون"، مما اذهل الاستراتيجيين الاميركيين. فصاروخ "كاليبر" الذي يطلق من الغواصات يطير بطريقة حلزونية ـ التفافية ـ ارتدادية لتفادي الموجات الرادارية المعادية والالتفاف حولها واختراقها كي يصل الى هدفه المحدد على بعد مئات الكيلومترات. وصاروخ "افانغارد" (الذي يحمل عدة رؤوس نووية) يطير بسرعة خيالية اكثر من عشرين مرة ضعف سرعة الصوت، مما يعني لا يلحق به اي صاروخ مضاد واي موجة رادار، ويستطيع ان يقطع المسافة بين روسيا واميركا اكثر من مرة ذهابا وايابا في ساعة واحدة، كما يستطيع ان يدور حول الكرة الارضية كقمر اصطناعي، وان يحلق عشرات الكيلومترات في الفضاء الكوني وينقض من الفضاء على الهدف او الاهداف المحددة له بشكل صاعق، ساحق وماحق. والصاروخ الباليستي "سارمات" يزن اكثر من 200 طن ويحمل عدة رؤوس نووية يمكن لكل رأس منها ان يوجه الى هدف مختلف او توجه كلها الى هدف واحد يستحيل الى جحيم حقيقي. مما يعني أنّ صاروخ "سارمات" واحد يمكنه ان يدمر عدة مدن كبرى اميركية في وقت واحد. واذا صب جميع حممه في مكان واحد فلا يمكن تصور ماذا سيحدث. ويطلق الناتو على هذا الصاروخ تسمية (ساتان) اي "الشيطان". اما صاروخ "بوسيدون" فهو عبارة عن صاروخ ـ طوربيد بحري ضخم، يستطيع ان يحمل رأسا حربيا تقليديا او رأسا نوويا، ويغوص الى عمق 1000 متر تحت سطح الماء ويسير تحت الماء بسرعة اكثر من 200 كلم في الساعة، وهو مخصص لضرب اي هدف بحري كان، واغراق اي غواصة او حاملة طائرات مهما كان حجمها، واذا تم تفجير شحنته النووية في البحر فإنه يتسبب بتسونامي هائل يغرق جميع المدن الساحلية قبالته. وقد صنعت روسيا غواصة خاصة لهذا الطوربيد الصاروخي تستطيع ان تحمل ست وحدات منه.
ان
والعسكريون الاستراتيجيون الاميركيون يدركون هذا الواقع المرير بالنسبة لاميركا، ويحذّرون الادارة السياسية الاميركية من الاصطدام العسكري بروسيا.
وامام هذه الصورة فإن اميركا تبدو كنمر من كرتون، وهي لا تملك سوى توجيه التهديدات الفارغة التي اظهرت فشلها تماما في المواجهة مع كوريا الشمالية وايران والصين. لانها ـ اي الادارة الاميركية ـ تدرك ان اي تعدِّ على اي دولة حليفة لروسيا سيستتبعان تكون اميركا تحت رحمة غضب الدب الروسي.
وهذا ما يدفع اميركا الى الاكتفاء بسياسة الاكاذيب، كأكذوبة اتهام روسيا بمحاولة تسميم العميل البريطاني سكريبال وابنته، واتهام ايران بأنها هي التي قصفت منشآت الارامكو في السعودية، واتهام حزب الله بأنه منظمة ارهابية، واخيرا اتهام الصين بأنها السبب في انتشار وباء كورونا.
ولكن جميع هذه الاكاذيب سيكون مصيرها الانفضاح والتلاشي كفقاعات صابون فارغة، وهي ستؤدي الى التعجيل في الهزيمة المؤكدة لاميركا في "الحرب الباردة" الجديدة، بكل ما يترتب على ذلك من انهيار في النظام السياسي القائم في اميركا وكتلتها الغربية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024