معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

التحوُّل نحو العملة الرقمية: هل يفقد الدولار قيمته العالمية؟
11/05/2020

التحوُّل نحو العملة الرقمية: هل يفقد الدولار قيمته العالمية؟

 
د. محمد علي جعفر - باحث مُتخصص في نُظُم السياسات والحوكمة

تعيش الدول تحدياً جديداً يرتبط بالتحول الرقمي. وهو ما يُشكل القضية الإستراتيجية الأبرز أمام الحكومات والشعوب، لتأثير هذا التحول على كافة أنماط حياة المواطن، من التعليم مروراً بالصحة والأعمال وصولاً الى الاقتصاد والأسواق المالية. وهو ما يفرض تحولاً في مقاربة الحكومات لقضايا الشأن العام ويستوجب لحاظ معايير الحداثة التي تُؤمِّن قدرة الدولة على تلبية مطالب المواطنين. لكن المعضلة الأبرز، تتعلق بإدارة عمليات الاستهلاك والمبيع وبالتالي ترتبط مباشرة بمستقبل العملة الورقية التي يعتمدها المواطن في حياته اليومية لتأمين احتياجاته الأساسية. وفي ظل ما يجري من تحولات في الاقتصاد العالمي والذي يطال أسواق المال وتحديداً الدولار، يتساءل الجميع عن مصير العملات المحلية، والتي ترتبط أغلبها بهذه العملة التي حكمت عمليات إدارة الأسواق المالية ليس فقط دولياً بل على الصعيد المحلي داخل الدولة.

من جهة أخرى يُؤثر الصراع العالمي لا سيما بين أمريكا والصين على الأسواق المالية، بعد أن باتت حرب العملات إحدى وسائل الضغط لا سيما في ظل توجه الصين الى التوقف عن التعامل بالدولار. وهو ما يُنبئ بتحدٍّ مُختلف يتعلق بانعدام الاستقرار في السوق المالية العالمية وبالتالي غياب القدرة على تحديد وجهة ومصلحة العمليات المالية في المستقبل القريب. فهل سيفقد الدولار قيمته العالمية؟ وهل للعملات الرقمية والتي منها البيتكوين أي دور في المستقبل المالي للدول؟ والى ماذا يجب أن تلتفت الدول؟

لا شك أن الدول ستكون قريباً أمام تحدٍّ مُزدوج على الصعيد النقدي. مشكلة العملية المحلية يُضاف اليها مشكلة الدولار! يجري ذلك في ظل واقع ماليٍ واقتصادي تتحكم فيه سياسات التيسير الكمي، أي رفع الكتلة النقدية، وهو ما يُسبب التضخم وارتفاع أسعار الأسهم. بالإضافة الى مجموعة من التحديات التي باتت تشترك بها الدول كافة، كانهيار أسواق المال، وارتفاع البطالة الى مستويات غير مسبوقة، وتراجع النمو. يُضاف الى ذلك توفر العملة الرقمية التي يقوم البعض بشرائها دون وجود ضوابط تحكمها! ما يعني أن العالم يعيش مرحلة من التسيُّب واللااستقرار في الإدارة المالية والنقدية للأسواق.

وهنا فإن مخاطر العملة الرقمية كبيرة والتي لم تصل الى مستوى يمكن اعتبارها بديلاً عن العملات الورقية. في العام 2008 ونتيجة للأزمة المالية العالمية خرج النظام المالي الرقمي الجديد تحت اسم “blockchain” وظهرت عملة رقمية جديدة تحت اسم “Bitcoin”. أثَّر هذا النظام على العمليات المالية التي تحكمه، وجعلها عمليات لا مركزية ولا تخضع لأي رقابة. ما أوجد عملة افتراضية في العالم الافتراضي تتميز بالحرية والتحرر. لذلك يتم تبادل البيتكوين على سبيل المثال ضمن سوقٍ مالية جديدة ما تزال مجهولة، فيما لم تُقدِم أغلب الدول على وضع سياسات لتنظيمها! كذلك قررت حديثاً شركة "فيسبوك" اصدار عملة رقمية خاصة بها تحت اسم "Libra (الليبرا)". وتراهن الشركة في الترويج لعملتها على حجم مستخدميها الذي يصل الى أكثر من 2.5 مليار مستخدم في العالم.

ورغم فشل العملة الرقمية عن فك مسارها عن مسار مؤشرات الأسهم (الأميركية)، لكن وجودها ساهم في تأسيس واقع مالي يدفع الدول للتوجه نحو التفكير في اعتمادها. وهو ما سيكون عنوان الحرب المقبلة بين الدول الكبرى لا سيما الصين وأمريكا. ولم يعد خفياً أن الصين بدأت منذ أيام اصدار اليوان الرقمي وذلك لتعميم استعماله في التبادل التجاري، ما يعني أن واشنطن قد تلجأ لإصدار الدولار الرقمي أيضاً! لكن ذلك لا يُلغي وجود مخاطر عديدة أهمها:

أولاً: غياب المبنى القانوني لهذه العملات وغياب التحديد الواضح لآليات التعامل بها، من حقوق وواجبات والمسؤوليات المتعلقة بالأطراف المستخدمة لها. ما يجعل سوق العملة الرقمية سوقاً مُصطنعة ويجعل المستثمرين فيها أصحاب أموال وهمية. وهو ما يحتاج في تنظيمه الى وضع معايير ومواصفات دولية لهذا النظام الجديد.

ثانياً: لا تتعلق هذه الأسواق بأنظمة الاقتصاد الواقعي ولا بمكوناته المهمة ولا بالحركة الإقتصادية التقليدية، عدا عن كونها لا تخضع للرقابة من قبل أي مصرف مركزي أو جهة حكومية. لذلك تسعى الصين الى إصدار عملة اليوان الرقمي والتي تتميز بأنها ستكون مدعومة حكومياً.

ثالثاً: في العمليات المالية الرقمية، تمتلك أربع أو خمس شركات عالمية فقط القدرة على التحكم بها ما يؤكد وجود جهات احتكارية متحكمة لمسار هذه العمليات وبالتالي مستقبلها، ويُعزز قدرتها على تحويل هذه السوق الإفتراضية لصالحهم.

إذًا، قد تسعى الدول اليوم الى ضبط تأثيرات النظام المالي الإفتراضي الجديد على مستقبل وحياة الشعوب. لكن أسئلة كثيرة باتت تُطرح حول السياسات التي يجب أن تحكم هذا التحول بهدف ضبط مساراته المستقبلية وتوجيهه، في ظل عدم القدرة على تحقيق الاستقرار في النظام المالي الحالي وتوقع انهياره. فيما تغيب الدول والحكومات عن تقديم أي أجوبة للأسئلة التي يبدو أنها ستكثر خلال الفترة المقبلة.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات