معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

خطاب المعادلة الخفية والفرصة الأخيرة
22/06/2020

خطاب المعادلة الخفية والفرصة الأخيرة

ايهاب زكي

في خطابه الأخير- خطاب المعادلة الخفية - أطلق السيد نصر الله معادلة جديدة لم يفصح عنها، وأبقى للعدو باباً مفتوحاً على مصراعيه للتحليل، ولن يتوانى العدو عن الانكباب تدبرًا وتفكرًا فيما أخفاه السيد ولِمَ أخفاه، ومتى سيحين وقت الإفصاح ومتى يكون وقت التنفيذ وفرض المعادلة واقعاً لا فكاك منه، ولن يترك العدو ساقطة أو لاقطة، ولا شاردة أو واردة إلّا سيحصيها، حتى يتسنى له استجلاء خفايا الرعب. ولكن مهما جنح أو أينما أصاب في رحلة بحثه المضنية، ستظل معادلة السيد مفاجئة للعدو فيما لو حان وقتها ومفاجأة، حيث أتقنت المقاومة اجتراح المفاجآت حتى بدا أنّها صنوانها، حتى واضحاتها المعلنة تفصيلاً تصبح مفاجأة في جل زواياها إن وقعت، كما حدث في عملية الرد على ليلة الطائرات المسيّرة في الضاحية واستشهاد مقاتلين من الحزب في سوريا بعدوانٍ "إسرائيلي"، حيث فصّل السيد بشكلٍ علني ردّ المقاومة وأنّه من لبنان وليس من سوريا، وأنّه على طول الحدود وليس من مزارع شبعا، وطلب من "جيش" العدو الوقوف على (رجل ونص)، وأخلى العدو الحدود وابتعد "جيشه" عنها 7-10 كم، ورغم ذلك حين وقع الرد تفاجأت به "إسرائيل""حكومة" و"جيشًا" ومستوطنين.

هناك خطان متوازيان أوصلا الواقع الميداني إلى مرحلة إشعال النار تحت القدر، الخط الأول هو الهروب الأمريكي الدائم من الذهاب للمواجهة العسكرية المباشرة مع محور المقاومة، والعجز "الإسرائيلي" البيّن عن افتعال هذه المواجهة، فوجدت أمريكا في العقوبات الاقتصادية ملجأً ومنجاة، الخط الثاني هو محور المقاومة الذي اعتمد ما عُرف بمبدأ الصبر الاستراتيجي، وتسجيل النقاط والفوز الموضعي، دون الحاجة للضربة القاضية التي كانت ستضطر الجميع لحربٍ لم يكن أحد يريدها.

 وفيما يخص المقاومة اللبنانية فإنّها أبدت حرصاً شديداً على مبدأ التمسك بالكينونة اللبنانية بكل تناقضاتها وتماسك كل مكوناتها، فمثلاً في خطاباتٍ سابقة للسيد نصر الله ومع اشتداد نذر استسلال سلاح العقوبات، أطنب في شرح استعداده وحزبه لتحمل كل العقوبات طالما استهدفتهم وحدهم، وكان هذا تنازلاً للداخل اللبناني لا ارتضاءً بخناجر العقوبات، لكنه اشترط أن تنحصر آثار العقوبات في هذا المربع حصراً دون مطاولة الكل اللبناني، ولكن في مفارقةٍ رياضية التقى المتوازيان، فيما كان الجميع يسعى ليظل التوازي قائماً حتى نهاية المطاف بأقل الأضرار الممكنة، ويبدو أنّ الولايات المتحدة أيقنت أنّ انتظار النهايات المرتقبة حسب الوقائع، تشير إلى خسارتها وفوز محور المقاومة، لذلك ألقت بآخر طلقاتها بإقرار قانون قيصر وتضييق الخناق الاقتصادي والمالي على لبنان.

غالب الظن أنّ الولايات المتحدة تفاجأت من لغة الخطاب التي تحدث بها السيد نصر الله، خصوصاً أنّه استخدم وصف الحرب لما أقدمت عليه، وعلى الأرجح أنّها كانت تنتظر خطاباً كلاسيكياً تحفيزياً عن الصبر والقدرة على تجاوز الأزمة الاقتصادية والمالية ومفاعيلها، كما هو الحال المعتمد منذ عمر الصراع، عبر الالتفاف على العقوبات أو التعايش معها، ثم محاولة قطع الطرق الالتفافية بعقوباتٍ جديدة، يتخلل الفترتين فوز موضعي لمحور المقاومة في ساحة هنا أو هناك، ولكن ما أحدثته الطلقة الأمريكية الأخيرة، جعل من استدامة الصراع بشكله المعتاد أمراً مستحيلاً، خصوصاً في لبنان، حيث إنّ سياسة حزب الله بقبول تلقي الصدمات الأمريكية منفرداً عبر العقوبات بهدف الحفاظ على لبنان، باتت سلاحاً تشهره الولايات المتحدة في وجه الحزب، حيث يتم تصوير قبوله إقراراً بمسؤولية السلاح عما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والمالية، وعليه يصبح التخلص من السلاح هو الطريق الأقصر للخروج من الأزمة، ولذلك فإنّ علّة قبول الحزب بتذوق آلام العقوبات منفرداً أصبحت منتفية، ومضافاً عليها تعميم هذه الآلام على كل اللبنانيين، فاستشعرت المقاومة أنّ المعادلة لم تعد مجرد عقوباتٍ على حزب بل على كل لبنان، ومفادها لم نستطع قتلكم بالنار ولم نستطع قتلك بالفتنة لكن سنقتل لبنان كله بجوعٍ يستجر النار والفتنة معاً.

إنّ إخفاء السيد نصر الله للمعادلة الجديدة، التي تستهدف مواجهة حرب التجويع والإفقار، تبدو أنّها لسببين يتراتبان أو يتسابقان في الأهمية، الأول هو أنّ محور المقاومة عموماً وحزب الله خصوصاً، لا زال يمتلك المزيد من الوقت، حيث إنّه كحزبٍ وإنّ لبنان كحكومة لم يصلا إلى مرحلة الخنق بعد، أمّا الثاني فهو إعطاء الوقت المناسب على سبيل الفرصة الأخيرة للولايات المتحدة و"إسرائيل" من خلال هذا التحذير القاسي، لتسحب الولايات المتحدة النار من تحت القدر قبل أن تفور، وأن تقبل بالتي هي أحسن بالانتصار السوري، وأن ترفع يدها عن السياسة المصرفية في لبنان، وألّا تجعل من سفيرتها في بيروت مندوباً سامياً يختص بالسياسة الخارجية والاقتصادية اللبنانية، وهذه الاستجابة الأمريكية بشكلٍ مبدئي، ستؤجل كشف السيد عن معادلته، وستبقيها حبيسة سبابته لفترةٍ من الزمن، وهذا ما سيعفي كيان العدو من حبس الأنفاس انتظاراً.

 أمّا الإصرار الأمريكي على المضي قدماً في سياسة الهروب عسكرياً والهجوم اقتصادياً، فسيجعل من اصطدام المتوازيات أمراً محتوماً، بكل ما يعنيه ذلك من مفاجآتٍ خفية، مع طرفٍ واضحات مفاجآته تثير الرعب، فكيف بخافيها...؟ فإذا كانت أمريكا أطلقت طلقتها الأخيرة، فإنّ السيد نصر الله منحها الفرصة الأخيرة قبل أن يطلق طلقته الأولى.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات