معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

الإخفاقات الأمريكية في لبنان.. هكذا يصبح حزب الله أقوى
28/07/2020

الإخفاقات الأمريكية في لبنان.. هكذا يصبح حزب الله أقوى

محمد أ. الحسيني    

السياسة التي تتبعها الإدارة الأمريكية في لبنان ستقوّي المقاومة وحلفاءها، وتضعف نفوذ واشنطن وحلفائها في لبنان.. هذه الخلاصة التي حدّدها الأمين العام لحزب الله سماحة السيد نصر الله في خطابه الأخير لا تختص فقط بالتدخّلات السياسية الأمريكية المباشرة في لبنان، بل تتّصل أيضاً بسياسة الخناق والحصار والعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على البلد بهدف إيصاله إلى حالة انهيار معيشي - اجتماعي تؤثر طردياً على مجتمع المقاومة، ولكن السيد نصر الله جزم بأن ذلك ستكون له نتيجة عكسية "لا تضعف حزب الله، ولا تؤثر على بيئة المقاومة، بل ستزداد تمسّكاً بالمقاومة.. وعندما تُدفع البلاد الی الانهيار والجوع لن تجد بقية الفئات اللبنانية أمامها ملاذاً لتلجأ اليه إلا المقاومة وحلفاءها المحليين والإقليميين".

ما الذي يجعل السيد نصر الله واثقاً من هذه الخلاصة؟ وكيف يمكن تلمّس مقوّماتها في ظل استمرار تعاظم الضغوط المعيشية وتشديد الخناق يوماً بعد يوم على المواطن اللبناني؟ وهل أفلحت الإدارة الأمريكية في استخدام سلاح الاقتصاد والمال لتحقيق أهدافها في لبنان؟

القطاع المصرفي

لا ضرورة للغوص في تشريح المعادلة الاقتصادية التي بُني عليها لبنان، وهي التي جعلت المصارف عموماً والمصرف المركزي بشكل خاص أصحاب النفوذ الأقوى والأكبر سياسياً واقتصادياً. فالقطاع المصرفي يشكّل العمود الفقري للاقتصاد في البلد، ويضم أكثر من ستين مصرفاً وألف فرع منتشر على الأراضي اللبنانية، وتقدّر قيمة النشاط التجاري لهذا القطاع بحوالي 45 مليار دولار سنوياً، وبموجودات بلغت في نهاية العام ٢٠١٩ حدود ٢١٦ مليار دولار، أي ما يوازي أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للدولة اللبنانية؛ فيما يتجاوز حجم الديون 90 مليار دولار أي أكثر من 150% من الناتج المحلي الإجمالي، ولكن هذا القطاع تحوّل بعد 17 تشرين الثاني 2019 إلى واحد من أكبر الأعباء التي تعيق حل الأزمة، ويشكّل واحداً من أهم الاخفاقات الأمريكية في لبنان.. كيف؟!

لا يخفى على أحد أهمية القطاع المصرفي بالنسبة للإدارة الأمريكية من حيث تمكينها بالتحكّم المالي وتأمين الدفق المعلوماتي - الاستخباري، فكل حركة تقوم بها المؤسسات المالية اللبنانية تجري بعلم وتحت مراقبة أمريكية مباشرة، إلا أن حجز المصارف اللبنانية على الحسابات العائدة لأي شخص أو مؤسسة تصنّفها واشنطن "إرهابية" تحت عنوان "تجفيف منابع تمويل حزب الله"، أدّى إلى تحويل القطاع المصرفي من نقطة قوة وإشراف ومراقبة إلى نقطة عمياء، فضلاً عن أن ليس لحزب الله أي حسابات مالية ولا تعاملات تجارية لديه عبر المصارف، كما أن إجراءات التحكّم والسيطرة على الودائع انعكست سلباً على مصالح الناس، مما دفع بالمودعين إلى الاحتفاظ بمدّخراتهم وعدم ضخّ أموالهم في دورة الاقتصاد الداخلي والخارج، وبالتالي لم يعد القطاع المصرفي مصدر ثقة وأمان لا سيما بعدما تبيّن أن هذه المصارف ضالعة في عملية تهريب مبالغ ضخمة إلى مصارف خارجية، ممّا أسهم في تعميق أزمة صرف سعر الدولار مقابل العملة الوطنية، وبالتالي لم يعد القطاع المصرفي يمتاز بالثقة والائتمان، وهما الصفتان اللتان طالما قيل إنهما تشكّلان الدعامتين اللتين يرتكز إليهما الاستقرار في لبنان، وتحوّلت المصارف إلى صناديق يسحب منها المودعون أموالهم وفقاً لسقوف مُحدَّدة، ولم تعد تلعب دور المُموِّل للقطاع الخاص أو صانع نظام المدفوعات الذي يُحرّك النشاطَ الاقتصادي، كما لم يعد المصرف المركزي وحاكمه رياض سلامة الضامن لهذا الاستقرار بل تحوّل إلى عدوّ الشعب وناهب أموال الناس.

الجيش اللبناني

إجراءات الحصار الأمريكي أسفرت عن إخفاق جوهري آخر تمثّل في إضعاف المؤسسة الأهم في لبنان وهي الجيش اللبناني. ولطالما أكدت واشنطن حرصها في الحفاظ على هذه المؤسسة العسكرية، على الرغم من تقتير مساعداتها للجيش وتحديدها باتجاه رسم دور محدد له وعدم تمكينه من التحوّل إلى قوة تهدّد أمن حليفتها "إسرائيل". ولكن التأزيم الأمريكي الذي شمل لبنان كله دولة وشعباً ومؤسسات، لم يستثنِ أي جهة أو أي طرف، وأدّى سقوط الليرة اللبنانية في فخ الابتزاز المالي المكشوف وفي لعبة الدولار إلى أزمة شحّ خانقة على مستوى الرواتب والتقديمات للعسكريين الذين يقاسون كما كل أبناء الشعب، مما انعكس نفسياً على معنويات الجنود الذين شكوا من الأوضاع المتردّية التي وصلوا إليها حتى على مستوى وجبات الطعام، فضلاً عن تأثر قدرات الجيش في التحرّك الميداني، وعدم أداء مهامه العملانية المطلوبة بسبب فقدان التمويل ونقص الإمدادات اللوجستية اللازمة، وعدم توافر المخصّصات المالية التي تضمن ثبات وفعالية وجهوزية القطعات العسكرية المختلفة.

الجامعة الأمريكية

الإخفاق الجوهري الثالث هو في إسقاط المؤسسات التابعة للولايات المتحدة في لبنان، وفي مقدمتها الجامعة الأمريكية التي أقحمت نفسها بشكل مباشر في الحراك الشعبي، مع ما رافقه من مطالب ملتبسة امتزج فيها الشأن المعيشي بالشأن السياسي بما يلبّي أجندة الأهداف الأمريكية المرسومة للبنان، وفي طليعتها إسقاط النظام والحكم وفرط المجلس النيابي وإعادة تشكيل السلطة بنسيج أمريكي. وكان لافتاً الدخول المباشر لرئيس الجامعة الأمريكية فضلو خوري على خط التحركات والمجاهرة برعاية ودعم الجامعة لشريحة شبابية شاركت في التظاهرات الشعبية، وهو تدخّل مباشر ولا سابقة له بهذا الشكل السافر، ولكن الموسى الأمريكية وصلت إلى ذقن مستشفى الجامعة الأمريكية التي لم ترَ بداً من الإعلان عن صرف المئات من العاملين فيها على خلفية الأزمة المالية، وبالتالي أصبح حالها كالأفعى التي تلتف حول المنشار، والسمّ الذي طبخته واشنطن أكلته على مائدتها.

موقع حزب الله

ويبقى الإخفاق الأكبر هو في الجانب السياسي حيث فشلت واشنطن في تمرير أي من أهدافها، وما التصعيد الإعلامي الأخير الذي مارسته السفيرة الأمريكية دوروثي شيا ودخولها المباشر على خط الأحداث والمواقف إلا مؤشر على ضيق صدر الإدارة الأمريكية بسبب سقوط رهانها على الأطراف اللبنانية الداخلية التابعة لها، وفشلها في إحداث أي أثر فعلي على مسار التطوّرات الداخلية، فضلاً عن عجز كل محاولات العرقلة عن التأثير على الأداء الحكومي على الرغم من أزمة الكورونا التي ترهق لبنان إدارياً ومالياً وصحياً، وفي المقابل عزّز الإخفاق الأمريكي موقع حزب الله في النسيج الوطني عموماً وليس فقط في بيئته الخاصة، وكرّس ما أكّده السيد نصر الله. والمزيد في هذا الجانب ستحمله الأيام المقبلة بحيث لن يعود لواشنطن ما ومن تراهن عليه.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات