معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

الانفتاح الفرنسي على العراق.. هل يهدد نفوذ واشنطن؟
04/09/2020

الانفتاح الفرنسي على العراق.. هل يهدد نفوذ واشنطن؟

بغداد - عادل الجبوري

   كثيرة هي الدلالات والمؤشرات والقراءات التي انطوت عليها الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للعراق، وما تخللها من تصريحات ومواقف وتعهدات، لا يمكن التعاطي معها على أنها جزء من الاستهلاك السياسي والتسويق الاعلامي الآني، بل، لا بد من تحليل مجمل معطياتها من زاوية استراتيجية عميقة، ربما لا تقتصر على العراق فحسب، وانما تمتد الى ما هو أوسع، لا سيما وأن الزيارة جاءت ضمن جولة شملت لبنان، الذي كان ماكرون قد زاره بعد وقوع انفجار مرفأ بيروت مباشرة في الرابع من شهر آب - اغسطس الماضي.

  ولا شك أن أي قراءة أو تحليل للحراك والتوجه الفرنسي نحو المنطقة، ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار عدة أمور، حتى ترتكز الرؤية العامة على أرضية واقعية، ومن هذه الأمور، أن فرنسا تعد من الناحية التاريخية إحدى القوّتين العالميتين الكبيرتين الى جانب بريطانيا، قبل أن تتغير الحسابات والمعادلات لصالح الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي السابق، بعد الحرب العالمية الثانية منتصف القرن الماضي. بيد أنها - أي فرنسا - بقيت تحتفظ بقدر كبير من تأثيرها وحضورها ومكانتها، كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، وكقوة سياسية واقتصادية متقدمة في الساحة  الاوروبية.

   الأمر الآخر، هو أن باريس ربما تشعر بأنها لفترة غير قصيرة من الزمن انزوت ونأت بنفسها، في وقت راحت قوى كبرى، مثل الولايات المتحدة الأميركية تكرس وجودها ونفوذها وهيمنتها في كل مكان، وبسبب سياساتها العدائية والعدوانية، باتت الولايات المتحدة مرفوضة على نطاق عالمي واسع، لذلك فإن مبادرة قوى أخرى لاستعادة بعض الأدوار وتعزيز قدر من الحضور، يبدو مناسبًا ومتاحًا الآن أكثر من أي وقت مضى، خصوصًا اذا لم يكن ذلك الحضور ذا طابع عسكري - استفزازي.

   اختيار الرئيس ماكرون كلاً من بيروت وبغداد كمنطلقات ومحطات أولى في اطار الحراك الدبلوماسي والسياسي الفرنسي على المنطقة، لم يكن اعتباطيًا وعفويًا، بل إنه على ما يبدو خضع لحسابات دقيقة، ارتبطت بقراءة وتقييم حجم العداء والمشاعر السلبية على الصعيدين السياسي والشعبي حيال واشنطن، فضلًا عن انطباعات راسخة بوجود فارق كبير بين منهج واشنطن ومنهج باريس في التعاطي مع مختلف القضايا والملفات، رغم تبعية وانسياق الأخيرة وراء الأولى في مراحل ومنعطفات عديدة.

   ربما جاء ماكرون ليعزز الانطباعات الايجابية ويبدد الانطباعات السلبية، تمهيدًا لتعزيز الحضور واستعادة الأدوار في ساحة اقليمية شائكة ومعقدة وحافلة بالتقاطعات والاختلافات والصراعات، مع التأكيد والتذكير بأن مسيرة العلاقات العراقية - الفرنسية تعود الى عقود سابقة من حقبة نظام حزب "البعث" المنحل، وتواصلت بعد سقوط ذلك النظام بخط بياني متذبذب وغير مستقر، أخذ يتضح ويتبلور نوعًا ما خلال الأعوام الثلاثة المنصرمة، بزيارات رفيعة المستوى، ابتدأها الرئيس السابق فرونسوا هولاند بزيارة أولى في شهر ايلول - سبتمبر من عام 2014، أي بعد اجتياح تنظيم "داعش" الارهابي لعدة مدن ومناطق عراقية، ليؤكد التزام بلاده بمساعدة العراق في محاربة ذلك التنظيم، ومن ثم زيارة ثانية مطلع عام 2017، في الوقت الذي كانت فيه القوات العراقية قد استعادت زمام المبادرة ونجحت بإلحاق هزائم كبيرة بـ"داعش". وهذا يعني أن زيارة ماكرون الأخيرة كانت الثالثة لرئيس فرنسي الى العراق في غضون ثلاثة أعوام، ولم يحصل أن قام زعيم دولة أوربية غربية، ولا حتى أي دولة - باستثناء ايران - بذلك الكمّ من الزيارات الرسمية رفيعة المستوى.

  وما تجدر الاشارة اليه هو أن زيارة ماكرون لبغداد، استبقتها زيارتان، الأولى لوزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان في تموز - يوليو الماضي، ومن ثم زيارة وزيرة الدفاع فلورانس بارلي أواخر شهر آب - اغسطس الماضي.

   ولعل مشهد زيارة ماكرون لبغداد، كان ملفتًا وحافلًا، من حيث طبيعة الاستقبال الرسمي وتعدد اللقاءات والاجتماعات مع رؤساء السلطات الثلاث وزعماء القوى والتيارات السياسية المختلفة، فضلًا عما تحدث به وطرحه من مواقف وتوجهات ازاء العراق، وكل ذلك كان مختلفًا تمام الاختلاف عن الزيارات التي قام بها كبار المسؤولين الأميركيين للعراق، وفي مقدمتهم الرئيس دونالد ترامب، الذي جاء قبل أكثر من عام ونصف خلسة بعد منتصف الليل، وبطائرة مطفأة الأنوار، ولم يأت الى بغداد ولم يلتق بأي من الساسة والقادة العراقيين، واكتفى بلقاء سريع مع بضع مئات من الجنود الأميركيين في قاعدة عين الأسد العسكرية بمحافظة الأنبار!

   الى جانب ذلك، فإن تصريحات الرئيس الفرنسي انطوت على رسائل ايجابية مطمئنة الى حد ما، وقد كان بعضها - بحسب بعض التحليلات - موجهًا لواشنطن، من قبيل تأكيده على ضرورة تمتع العراق بكامل سيادته الوطنية بقوله "إنّ المعركة من أجل سيادة العراق أساسية، وهناك قادة وشعب مدركون لذلك ويريدون أن يحددوا مصيرهم بأنفسهم، وان دور فرنسا يكمن في مساعدتهم على ذلك". كذلك أبدى ماكرون استعداد بلاده لدعم مشاريع التنمية والاعمار في العراق، ومساعدته في تجاوز التحديات والمشاكل الاقتصادية والتنموية التي يواجهها.                  

  قد يكون من غير الصحيح الاستغراق في التفاؤل والحماس للخطوات والمبادرات الفرنسية، لأن حسابات ومصالح دولة  مثل فرنسا ليس بالضرورة أن تأتي منسجمة ومتوافقة مع المصالح الوطنية العراقية أو مصالح دول المنطقة، بيد أنه في ذات الوقت من المهم جدًا بالنسبة للعراق الانفتاح على مختلف الأطراف الاقليمية والدولية، لا سيما صاحبة التأثير الكبير، مثل الصين وروسيا وفرنسا وايران وغيرها، للاستفادة من مختلف التجارب والامكانيات، وللحد من النفوذ والهيمنة الأميركية وعدم رهن البلاد واخضاعها لمصالح ومزاجيات وأهواء واشنطن التي غالبًا ما تكون خلاف المصالح الوطنية، وهذا ما أثبتته وأكدته التجارب السابقة، وتؤكده وتثبته مجمل المواقف والتوجهات الراهنة.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات