معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

بيلاروسيا حلقة جديدة في الصراع الغربي ضد روسيا
08/09/2020

بيلاروسيا حلقة جديدة في الصراع الغربي ضد روسيا

صوفيا - جورج حداد

برز في الأشهر الأخيرة في وسائل الاعلام اسم بيلاروسيا (او بيلوروسيا) كحلقة جديدة من حلقات الصراع الاميركي والغربي ضد روسيا. وبيلاروسيا هي بلد متوسط الحجم في شرقي أوروبا، كانت عضوًا في الاتحاد السوفياتي السابق، تبلغ مساحتها حوالى 210 الاف كلم2، وعدد سكانها أقل من 9.5 ملايين نسمة.

وتكتسب بيلاروسيا أهمية جيوستراتيجية هامة، اذ تقع بين روسيا في الشرق، وبولونيا في الغرب، وأوكرانيا في الجنوب، وليتوانيا ولاتفيا في الشمال والشمال الغربي. أي إنها تشكل دولة أو منطقة عازلة بين روسيا وبين دول حلف شمال الاطلسي الشمالية (بولونيا، ودول البلطيق ليتوانيا ولاتفيا واستونيا) ودولة اوكرانيا الموالية لحلف الناتو والمعادية (الى الان) لروسيا. وباعتبار أنها تدخل في حلف أمني ـ عسكري مع روسيا، فهي تعتبر خط الدفاع الاول في مواجهة حلف الناتو، في الحدود الشمالية الغربية لروسيا.  

كما أنها تكتسب أهمية جيوسياسية خاصة، وهي أنها بعد انهيار المنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي السابقين، ألغت نظام حكم الحزب الواحد (الشيوعي)، ولكنها لم تنزلق، كغيرها من دول أوروبا الشرقية، نحو "اقتصاد السوق"، ولم تفتح الأبواب على مصاريعها للرساميل الاجنبية الغربية واليهودية كي تسيطر على أمهات الاقتصاد الوطني البيلاروسي، ولم تدر ظهرها لروسيا وتعادها وتسر في ركاب اميركا والحلف الاطلسي (الناتو). وقد أباحت بيلاروسيا الملكية الخاصة وقطاع الانتاج الخاص، ولكنها حافظت على الملكية العامة (ملكية الدولة) لقطاعات الاقتصاد الرئيسية (المناجم، والصناعات الرئيسية، والكهرباء، والبنية التحتية) وعلى انظمة الضمانات الاجتماعية، والصحة، والتعليم. ومنعت تمامًا تملك الرساميل الأجنبية للثروات المنجمية والوطنية العامة والمؤسسات الصناعية العامة والبنوك. وحافظت على العلاقات الاقتصادية والتجارية الوثيقة مع روسيا، التي تعتبر اليوم الشريك التجاري الاول لبيلاروسيا، وتأتي بعدها مجموعة دول الاتحاد الاوروبي. وتطرح النخبة القيادية في بيلاروسيا فكرة "اشتراكية السوق"، وتحاول تطبيقها.  

وهذا النهج السياسي ـ العسكري ـ الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ الوطني لبيلاروسيا لم يكن نهجًا خاصًا لحزب معين، او تكتل حزبي معين احرز السلطة، بل هو نتاج ثقافة ايديولوجية ـ دينية ـ سياسية ـ اجتماعية جماهيرية عامة، تتبناها وتدين بها الغالبية الساحقة من الجماهير الشعبية البيلاروسية، بصرف النظر عن الاصطفافات والانتماءات الحزبية، الموالية والمعارضة والمحايدة حيال السلطة القائمة. وقد تكونت هذه الثقافة الوطنية ـ الاجتماعية للشعب البيلاروسي، عبر تاريخه القديم والحديث.

فالأرض البيلاروسية تقع في الطرف الشمالي الغربي لروسيا، وتفصل بينها وبين بولونيا ودول البلطيق في الغرب الشمالي. وقد عاشت في بيلاروسيا على مر القرون، وتداخلت، وتحاربت، وتصالحت، وتعايشت، وتعاونت، وتدامجت، القبائل السلافية والقبائل البلطيقية القديمة. وقد تغلبت فيها الثقافة والانتماء للرابطة الثقافية السلافية واللغة الروسية وللكنيسة الاورثوذوكسية الشرقية. وطور البيلاروسيون لغة وطنية خاصة، هي اللغة البيلاروسية، القريبة جدًا من اللغة الروسية، والتي تعتبر واحدة من عائلة اللغات السلافية. والجدير بالذكر أن 75% من السكان هم بيلاروسيون، و23% هم روس، والبقية هم بولونيون واوكرانيون وقوميات واتنيات أخرى. ولكن 70% من السكان يستخدمون اللغة الروسية و23% يستخدمون اللغة البيلاروسية، وتعتمد اللغتان البيلاروسية والروسية دستوريًا كلغتين رسميتين للبلاد.
 
وطوال القرون الوسطى وحتى الحرب العالمية الأولى كان يتم تقاسم الأراضي البيلاروسية بين دولة ليتوانيا البلطيقية، وبولونيا، وروسيا القيصرية. ولم تستقل بيلاروسيا الا في 1918، في أعقاب الثورة الاشتراكية الروسية في 1917. وفي 1919 تحولت الى جمهورية بولشيفيكية، وانضمت الى الاتحاد السوفياتي في 1922.

وفي 1941، ونظرًا لموقعهما الجغرافي، كانت بيلاروسيا واوكرانيا أول من تلقى الصدمة الأولى للعدوان النازي الهتلري الصاعق ضد الاتحاد السوفياتي. وقاتلت بيلاروسيا ببسالة منقطعة النظير ضد النازيين، الذين أبادوا ابادة كاملة ثلث الشعب البيلاروسي، ودمروا تمامًا 209 من أصل 290 مدينة بيلاروسية، ومليون بناية سكنية، و85% من المنشآت الصناعية.

ولكن بعد الانتصار على النازية عادت بيلاروسيا ونهضت بقوة، ونشأت فيها صناعة متطورة ذات قدرة تنافسية عالمية. وحتى عام الازمة العالمية سنة 2008 كان معدل النمو الاقتصادي فيها حوالى 8% سنويا.

وفي 1991 انفصلت بيلاروسيا عن الاتحاد السوفياتي، ولكنها حافظت على علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية وثيقة مع روسيا.
وفي 1994 انتخب سياسي مغمور هو الكسندر لوكاشينكو، رئيسا للجمهورية البيلاروسية. وقد تمسك لوكاشينكو بالنهج الوطني الخاص لبيلاروسيا، ووقف بحزم ضد موجة الانزلاق نحو التبعية للغرب، وفتح الابواب للرساميل الكبرى الغربية واليهودية لنهب ثروات البلاد باسم "الحريات الدمقراطية" و"حقوق الانسان" وغيرها من الشعارات الديماغوجية الغربية التي تتبناها وتستخدمها المخابرات الاميركية والغربية والاسرائيلية، لتغطية نشاطاتها الهدامة والاجرامية. ولكن بعد تبوّئه مركز الرئاسة عمد لوكاشينكو الى تعديل الدستور بما يعطي رئاسة الجمهورية صلاحيات واسعة، ويسمح باعادة انتخاب الرئيس لمرات غير محدودة. وبذلك تحول النظام البيلاروسي الى نظام شبه رئاسي دستوريا، والى نظام حكم فردي شبه دكتاتوري عمليا. وبموجب هذه التعديلات امكن اعادة انتخاب لوكاشينكو منذ 1994 حتى الان. وقد اتاح ذلك تشكل شريحة بيروقراطية، تتحكم بالقاعدة الشعبية، وتستفيد بشكل طفيلي من السلطة، وتستمد قوتها واستمراريتها من تملق السلطة الفوقية القائمة. وقد أسس ذلك لنشوء معارضة شعبية واسعة للحكم الفردي للوكاشينكو، تشمل العمال والطلاب والمثقفين والجماهير عامة، بصرف النظر عن الانتماءات أو الاستقلالية الحزبية.

وفي 9 اب الماضي جرت دورة انتخابات رئاسية جديدة، ترشح فيها الرئيس لوكاشينكو من جديد. وحسب الاحصاءات الرسمية فاز لوكاشينكو باكثر من 80% من أصوات الناخبين، بينما نالت المرشحة الرئيسية للمعارضة سفيتلانا تيخانوفسكا 9% من الاصوات. وقد اتهمت المعارضة السلطة بتزوير الانتخابات، وأعلنت أن تيخانوفسكا هي الفائزة. ولكن تيخانوفسكا ذاتها غادرت البلاد ولجأت الى ليتوانيا المجاورة، بحجة الخوف من القمع. وقد خرجت على الأثر مظاهرة شعبية عارمة شارك فيها، حسب معطيات وسائل الاعلام، أكثر من 200 الف شخص في مدينة مينسك ـ العاصمة، بالاضافة الى عشرات الالاف في المدن البيلاروسية الاخرى. والآن تجري يوميًا مظاهرات احتجاجية صغيرة أمام مقر رئاسة الجمهورية، الا أنه في أيام الآحاد يبلغ عدد المتظاهرين عشرات الالوف. وتمنع قوات الامن المتظاهرين من اقتحام مقر الرئاسة وغيره من المقرات الحكومية. وقد حدثت اصطدامات وقع فيها حتى الآن، حسب معطيات وسائل الاعلام، 3 قتلى وعشرات الجرحى، وتم اعتقال اكثر من 7000 شخص.

إن الشعارات الرئيسية في المظاهرات هي موجهة ضد الحكم الفردي للوكاشينكو وضد البيروقراطية. ولكن بعض فئات من المتظاهرين رفعت شعارات مشبوهة ضد اعتماد اللغة الروسية كلغة رسمية ثانية في الدولة. كما رفعت فئات أخرى علما قديما لبيلاروسيا (قبل المرحلة السوفياتية)، وهو علم كان يرفعه الخونة المتعاونون مع النازية خلال الاحتلال النازي لبيلاروسيا في الحرب العالمية الثانية.

وتتهم السلطات البيلاروسية الدوائر الغربية بتمويل بعض ما يسمى منظمات المجتمع المدني غير الحكومية، بهدف تنظيم "سيناريو انقلابي" جديد على الطريقة الاوكرانية في بيلاروسيا، تحت شعار رئيسي هو معاداة روسيا. وقد اتهم لوكاشينكو شخصيًا اوكرانيا بتدريب 200 اوكراني ـ بيلاروسي تدريبًا عسكريًا خاصًا وإعادتهم الى بيلاروسيا للقيام باعمال ارهابية وتخريبية لاثارة الشغب وايقاع الاشتباكات بين المتظاهرين وقوى الامن، على طريق تحقيق سيناريو "انقلاب اوكراني". وحذر لوكاشينكو أنه اذا حدث انقلاب "غربي" في بيلاروسيا فإن ذلك سيؤدي الى مجزرة والى نشوب حرب أهلية.

وعبرت روسيا عن تعاطفها التام مع بيلاروسيا، وأبدت الاستعداد للتوسط بين ممثلي السلطة والمعارضة فيها. وحذر الرئيس بوتين الكتلة الغربية من مغبة التلاعب بمصائر الشعب البيلاروسي، ومن محاولة موضعة قوات الناتو على الحدود مع روسيا، وقال إن اي "سيناريو اوكراني" لن يمر في بيلاروسيا، وإن روسيا مستعدة للتدخل العسكري بطلب من الحكومة الشرعية، ولكن الى الآن لا يوجد ضرورة لذلك. كما قام رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميسوتشين بزيارة مينسك، على رأس وفد حكومي روسي كبير، للبحث في تطوير وتوسيع كافة العلاقات الاخوية بين روسيا وبيلاروسيا.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات