معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية بعد أربعين عاماً: تحوّلات النهج والاستراتيجيا
01/02/2019

العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية بعد أربعين عاماً: تحوّلات النهج والاستراتيجيا

محمد الحسيني    
في 16 كانون الثاني/ يناير 1979 فرّ الشاه محمد رضا بهلوي من إيران بفعل الثورة الشعبية المشتعلة، ليعود إليها الإمام الخميني من منفاه في فرنسا بعد أسبوعين، وفي 11 شباط/ فبراير 1979 تم إعلان انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ليدخل العالم كلّه في منعطف جديد وتتغيّر تفاصيل المعادلة الكونية، وتختلف موازين القوى والسياسة في واحدة من أكثر المناطق اشتعالاً على مدى الأزمنة، وهي التي لطالما شكّلت نقطة استهداف ومحوراً امتزجت فيه حركة الميدان بمسار الجغرافيا والتاريخ، ودخلت إيران في أتون الصراع بين الشرق والغرب لتصبح بعد حين هي المعادلة بحد ذاتها، وتفرض تحت راية الإسلام الشروط، وترسم معالم المراحل دون أن ترتهن بقرارها للشرق أو للغرب، وتعيد تقويم الوجهة الأساسية نحو فلسطين.

إسقاط هيمنة أمريكا ومشروع "إسرائيل"

لم يكن شعار مواجهة الاستكبار و"الموت لأمريكا" الذي رفعه الشعب الإيراني تحت قيادة الإمام الخميني رد فعل اعتباطياً جاء بعد التحرّر من سنوات طويلة من الخضوع للغرب، ولم يكن اقتحام السفارة الأمريكية في طهران، واحتجاز 52 موظفاً فيها لمدة 44 يوماً، وكذلك إغلاق السفارة الصهيونية واستبدالها بسفارة فلسطين، مجرد فعل انتقام شعبوي عاطفي، بل جاء ذلك في إطار الرؤية التي انبنى عليها أداء الحكومة الإسلامية في إيران منذ أربعين عاماً حتى اليوم. فسفارة واشنطن كانت وكراً حقيقياً للتجسس ومركزاً رئيسياً لإدارة المشاريع الأمريكية في الشرق والعالمين العربي والإسلامي، وسفارة "إسرائيل" كانت تمثّل الجرثومة التي ينطلق منها العمل على توسيع دائرة السيطرة الغربية في المنطقة. وبالتالي تتجلّى الرؤية الإسلامية في إيران بهدفين أساسيين: إسقاط الهيمنة الأمريكية في العالم وضرب مشروع قيام دولة "إسرائيل"، بما يؤدي إلى تحرير الأمة من التبعية للغرب وتمكينها من اتخاذ قرارها الحرّ الذي يلبّي طموحات شعوبها.

انقلاب إيران لا يزال يؤرق واشنطن

ما حدث في إيران عام 1979 كان انقلاباً لم تستطع الولايات المتحدة الأمريكية حتى اليوم من استيعاب آثاره، ولذا من الطبيعي ألا تستقيم العلاقة بين طهران وواشنطن، فإيران لم تعد الشرطي الأمريكي الذي يطوّع الدول العربية الغنية بالنفط، ولا مورداً يغذي "إسرائيل" بالنفط والغاز، ولا سياجاً فاصلاً يبنيه الغرب في مواجهة الدول الكبرى في الشرق كالاتحاد السوفياتي والصين، فقد تحوّلت إيران من الحليف الأول إلى العدو الأول، وكانت الضربة الأمريكية الأولى على الثورة الفتيّة شنّ الحرب ضدها بأدوات عربية - خليجية تولّى الرئيس العراقي صدام حسين إشعالها، فيما تكفلت واشنطن بفرض حصار شامل وتدخّل عسكري مباشر عبر ضرب الناقلات واستهداف آبار ومصافي النفط الإيرانية. استمرت الحرب ثماني سنوات دون أن تنجح واشنطن في ضرب إيران أو تطويعها، لتدخل مباشرة على خط التطوّرات فتجتاح العراق عام 1991 بذريعة غزوه للكويت، وتعزّز قواعدها العسكرية المنتشرة في دول الخليج العربي بحجة حمايتها من الخطر الإيراني وتهديدات صدّام.

الخامنئي يؤكد مبادئ الخميني

اشتدت العلاقات بين واشنطن وطهران تعقيداً حين أسقطت الفرقاطة الأمريكية "فينسينت" في 3 تموز / يوليو 1988 طائرة مدنية إيرانية ما أدى إلى استشهاد 290 راكباً. لم تعتذر الإدارة الأمريكية عن جريمتها، بل اندفع جورج بوش الأب بعد فوزه بالرئاسة إلى إدراج إيران في ما يسمّى "محور الشر" مع العراق وكوريا الشمالية. واستمر التوتّر في ظل حصار شامل على إيران، وراهن الأميركيون على أن رحيل الإمام الخميني الذي توفّي في 3 حزيران / يونيو 1989 قد يضعف المنحى السياسي الإيراني حيال واشنطن، ولكن جاء الإمام السيد علي الخامنئي ليؤكد على المبادئ التي أرساها الإمام الراحل، بل أعطاها زخماً أكبر على مستوى التعاطي مع الملفات الأساسية المرتبطة بمفاصل القوة للجمهورية الإسلامية، وفي مقدمتها البرنامج النووي السلمي والبحث العلمي والصناعي والاقتدار العسكري والأمني.

إيران تعلن تخصيب اليورانيوم

عملت واشنطن على محاولة ضرب استقرار إيران من الداخل بالتوازي مع تشديد الحصار، من خلال إنشاء ودعم حركات تخريبية تمثّلت باحتجاجات ارتدت الطابع الشعبي ضد إجراءات الحكومة الاقتصادية، كما عملت على محاولة استمالة بعض المسؤولين الإيرانيين وعدد من أعضاء مجلس الشورى الذين طالبوا بفتح حوار مع الإدارة الأمريكية، ولا سيما في عهد الرئيس محمد خاتمي، وأملت واشنطن أن تؤدي هذه الاحتجاجات إلى إرساء حركة داخلية تسهم في زعزعة النظام، ولكنها جاءت متواضعة ولم تؤد إلى إحداث أي تغييرات فاعلة، وسرعان ما تكشّفت الأهداف الخبيثة التي كانت تختبئ خلف هذه التحرّكات، وسقطت أمام تمسّك الشعب الإيراني بثوابته ووقوفه خلف قيادته، التي طالما أكّدت أن الخلاف ليس مع الشعب الأمريكي بل مع إدارته وسياستها التوسعية. ووصل التوتّر في العلاقة الأمريكية - الإيرانية إلى أعلى مستوى لا سيما بعد حادثة تفجير برجي التجارة العالمية في 11 أيلول/ سبتمبر 2001، حيث حاولت واشنطن أن تحمّل إيران المسؤولية عما جرى، ورفعت سقف المواجهة عبر اتهام إيران عام 2002 بتطوير برنامج أسلحة نووية سرًّا، وفي المقابل أعلن الرئيس محمود أحمدي نجاد عام 2005 العمل في تخصيب اليورانيوم، فقابله فرض عقوبات أمريكية وأوروبية جديدة على أربع دفعات بين عامي 2006 و2010، وخلال هذه الفترة واصلت طهران تواصلها الإيجابي مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي لم تستطع إيجاد دليل إثبات للمزاعم الأمريكية.

ترامب فتح الحرب على مصراعيها

عادت العلاقات إلى مرحلة من الهدوء النسبي، خلال عهد الرئيس حسن روحاني وتوقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة الدول الـ 5 + 1 في تموز/ يوليو 2015 خلال تولّي باراك أوباما رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية بعد 12 عاماً من المفاوضات المضنية، وحافظت فيه إيران على حقها في التخصيب النووي للأغراض السلمية في أطر محدّدة مقابل رفع تدريجي للعقوبات والإفراج عن الأرصدة المالية الإيرانية المجمّدة في المصارف الأمريكية والعالمية، وحذّر الإمام الخامنئي الرئيس روحاني من مغبّة الوثوق بالقوى الكبرى ولا سيما أمريكا في سياق تطبيق الاتفاق، وهذا ما حصل بالفعل حيث لم تستجب واشنطن لتنفيذ بنود الاتفاق، لا بل إن الحرب فُتحت على مصراعيها مع مجيء دونالد ترامب إلى الرئاسة وإعلانه انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق في أيار/ مايو 2018 وفرض عقوبات أقسى وأشمل على إيران، لترتدي العلاقات طابع الصدام المباشر بين إيران من جهة وبين أمريكا وحلفائها من العرب والمجتمع الدولي من جهة أخرى. ولئن كانت روسيا وبعض الدول الأوروبية نأت بنفسها عن تأثيرات وتفاعلات هذا القرار، إلا أن قرارها كان نابعاً من منطلق الحفاظ على مصالحها، والسعي للتفلّت من الضغط الذي تمارسه الإدارة الأمريكية حيالها في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية.

إيران نهج ثابت لا يضعف ولا يتغيّر

لا يمكن أن نغفل أو نتغاضى عن الاعتراف بأن إيران عانت ولا تزال تعاني من المشاكل الحادّة والتحدّيات الناتجة عن المواجهة المستمرة منذ أربعين عاماً مع الحلف الأمريكي - الغربي والعربي. فسنوات الحصار الطويلة من شأنها أن تسقط أي نظام وتدفعه إلى الاستسلام، ولكن النموذج الذي أرساه الإمام الخميني في بنية الحكم، والمبادئ الثابتة التي أطلقها كرّست نهج الاستقلال، وأخذت إيران إلى تبنّي المقاومة في أوجهها ومجالاتها المختلفة لتتغلّب على تحدّياتها الداخلية والخارجية، بفعل القيادة الحكيمة ووقوف الشعب خلف هذه القيادة التي محضها ثقته ودعمه، ومهما تقلّب الرؤساء في الولايات المتحدة الأمريكية وتنوّعت سياساتهم، فإن القرار في إيران راسخ لا يضعف ولا يتأثر، بل تدفعه الأزمات إلى الصلابة أكثر فأكثر.
***
(*) "جعل آية الله الخميني الغرب يواجه أزمة حقيقية في التخطيط.. لقد كانت قراراته مدوّيةً كالرعد بحيث لا تدع مجالاً للساسة والمنظرين السياسيين لاتخاذ أي فكر أو تخطيط، ولم يستطع أحد التكهن بقراراته بشكل مسبق.. كان يتحدث ويعمل وفقاً لمعايير أخرى، تختلف عن المعايير المعروفة في العالم، كأنه يستوحي الإلهام من مكانٍ آخر. إن معاداته للغرب نابعة من تعاليمه الإلهية، ولقد كان خالص النية في معاداته أيضاً".
هنري كسينجر- وزير خارجية أمريكا الأسبق

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل